مَوْجُودٌ مَوْجُودٌ وَالْمُتَرَادِفَةُ كَالْمُتَكَرِّرَةِ فَهُوَ إذًا يَبْطُلُ بِالْعَرَضِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ حَتَّى انْدَفَعَ النَّقْضُ بِقَوْلِكَ " مُتَحَيِّزٌ " وَلَمْ يَنْدَفِعْ بِقَوْلِكَ " مَوْجُودٌ " فَهُوَ غَيْرٌ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ، فَوَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِتَغَايُرِ الْمَعْنَى فِي الْعَقْلِ.
وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ الْمُفْرَدَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَدٌّ حَقِيقِيٌّ وَإِنَّمَا يُحَدُّ لَهُ بِحَدٍّ لَفْظِيٍّ كَقَوْلِكَ فِي حَدِّ الْمَوْجُودِ: إنَّهُ الشَّيْءُ، أَوْ رَسْمِيٍّ كَقَوْلِكَ فِي حَدِّ الْمَوْجُودِ: إنَّهُ الْمُنْقَسِمُ إلَى الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَالْقَادِرِ وَالْمَقْدُورِ أَوْ الْوَاحِدِ وَالْكَثِيرِ أَوْ الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ أَوْ الْبَاقِي وَالْفَانِي أَوْ مَا شِئْت مِنْ لَوَازِمِ الْمَوْجُودِ وَتَوَابِعِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ يُنَبِّئُ عَنْ ذَاتِ الْمَوْجُودِ عَنْ تَابِعٍ لَازِمٍ لَا يُفَارِقُهُ أَلْبَتَّةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَكَّبَ إذَا حَدَّدْتَهُ بِذِكْرِ آحَادِ الذَّاتِيَّاتِ تَوَجَّهَ السُّؤَالُ عَنْ حَدِّ الْآحَادِ، فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَا حَدُّ الشَّجَرِ؟ فَقُلْتَ: نَبَاتٌ قَائِمٌ عَلَى سَاقٍ، فَقِيلَ لَكَ: مَا حَدُّ النَّبَاتِ؟ فَتَقُولُ: جِسْمٌ نَامٍ، فَيُقَالُ: مَا حَدُّ الْجِسْمِ؟ فَتَقُولُ: جَوْهَرٌ مُؤْتَلِفٌ أَوْ الْجَوْهَرُ الطَّوِيلُ الْعَرِيضُ الْعَمِيقُ، فَيُقَالُ وَمَا حَدُّ الْجَوْهَرِ؟ وَهَكَذَا، فَإِنَّ كُلَّ مُؤَلَّفٍ فِيهِ مُفْرَدَاتٌ فَلَهُ حَقِيقَةٌ وَحَقِيقَتُهُ أَيْضًا تَأْتَلِفُ مِنْ مُفْرَدَاتٍ.
وَلَا تَظُنُّ أَنَّ هَذَا يَتَمَادَى إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ بَلْ يَنْتَهِي إلَى مُفْرَدَاتٍ يَعْرِفُهَا الْعَقْلُ وَالْحِسُّ مَعْرِفَةً أَوَّلِيَّةً لَا تَحْتَاجُ إلَى طَلَبٍ بِصِيغَةِ الْحَدِّ، كَمَا أَنَّ الْعُلُومَ التَّصْدِيقِيَّةَ تُطْلَبُ بِالْبُرْهَانِ عَلَيْهَا وَكُلُّ بُرْهَانٍ يَنْتَظِمُ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ وَلَا بُدَّ لِكُلِّ مُقَدِّمَةٍ أَيْضًا مِنْ بُرْهَانٍ يَأْتَلِفُ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ وَهَكَذَا فَيَتَمَادَى إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى أَوَّلِيَّاتٍ، فَكَمَا أَنَّ فِي الْعُلُومِ أَوَّلِيَّاتٍ فَكَذَلِكَ فِي الْمَعَارِفِ، فَطَالِبُ حُدُودِ الْأَوَّلِيَّاتِ إنَّمَا يَطْلُبُ شَرْحَ اللَّفْظِ لَا الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ تَكُونُ ثَابِتَةً فِي عَقْلِهِ بِالْفِطْرَةِ الْأُولَى كَثُبُوتِ حَقِيقَةِ الْوُجُودِ فِي الْعَقْلِ، فَإِنْ طَلَبَ الْحَقِيقَةَ فَهُوَ مُعَانِدٌ كَمِنْ يَطْلُبُ الْبُرْهَانَ عَلَى أَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ الْوَاحِدِ، فَهَذَا بَيَانُ مَا أَرَدْنَا ذِكْرَهُ مِنْ الْقَوَانِينِ
[الْفَنُّ الثَّانِي مِنْ دِعَامَةِ الْحَدِّ فِي الِامْتِحَانَاتِ لِلْقَوَانِينِ]
ِ فِي الِامْتِحَانَاتِ لِلْقَوَانِينِ بِحُدُودٍ مُفَصَّلَةٍ:
وَقَدْ أَكْثَرْنَا أَمْثِلَتَهَا فِي كِتَابِ مِعْيَارِ الْعِلْمِ وَمِحَكِّ النَّظَرِ " وَنَحْنُ الْآنَ مُقْتَصِرُونَ عَلَى حَدِّ الْحَدِّ وَحَدِّ الْعِلْمِ وَحَدِّ الْوَاجِبِ لِأَنَّ هَذَا النَّمَطَ مِنْ الْكَلَامِ دَخِيلٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ فَلَا يَلِيقُ فِيهِ الِاسْتِقْصَاءُ.
الِامْتِحَانُ الْأَوَّلُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَدِّ الْحَدِّ، فَمِنْ قَائِلٍ، يَقُولُ: حَدُّ الشَّيْءِ هُوَ حَقِيقَتُهُ وَذَاتُهُ، وَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ: حَدُّ الشَّيْءِ هُوَ اللَّفْظُ الْمُفَسِّرُ لِمَعْنَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ وَيَجْمَعُ، وَمِنْ قَائِلٍ ثَالِثٍ يَقُولُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ فَيَنْصُرُ أَحَدَ الْحَدَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ، فَانْظُرْ كَيْفَ تَخَبَّطَ عَقْلُ هَذَا الثَّالِثِ فَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الِاخْتِلَافَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ التَّوَارُدِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهَذَانِ قَدْ تَبَاعَدَا وَتَنَافَرَا وَمَا تَوَارَدَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَإِنَّمَا مَنْشَأُ هَذَا الْغَلَطِ الذُّهُولُ عَنْ مَعْرِفَةِ الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فَإِنَّ مَنْ يَحُدُّ الْعَيْنَ بِأَنَّهُ الْعُضْوُ الْمُدْرِكُ لِلْأَلْوَانِ بِالرُّؤْيَةِ لَمْ يُخَالِفْ مَنْ حَدَّهُ بِأَنَّهُ الْجَوْهَرُ الْمَعْدِنِيُّ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ النُّقُودِ بَلْ حَدُّ هَذَا أَمْرًا مُبَايِنًا لِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا اشْتَرَكَا فِي اسْمِ الْعَيْنِ فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّهُ قَانُونٌ كَثِيرُ النَّفْعِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا الصَّحِيحُ عِنْدَكَ فِي حَدِّ الْحَدِّ فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ طَلَبَ الْمَعَانِيَ مِنْ الْأَلْفَاظِ ضَاعَ وَهَلَكَ وَكَانَ كَمَنْ اسْتَدْبَرَ الْمَغْرِبَ وَهُوَ يَطْلُبُهُ وَمَنْ قَرَّرَ الْمَعَانِيَ أَوَّلًا فِي عَقْلِهِ ثُمَّ أَتْبَعَ الْمَعَانِيَ الْأَلْفَاظَ فَقَدْ اهْتَدَى. فَلْنُقَرِّرْ الْمَعَانِيَ، فَنَقُولُ: الشَّيْءُ لَهُ فِي الْوُجُودِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ
الْأُولَى: حَقِيقَتُهُ فِي نَفْسِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute