عَنْ الْأُمُورِ ابْتِدَاءُ بَيَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا إشْكَالٌ.
وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ حَدَّهُ بِأَنَّهُ إخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إلَى حَيِّزِ التَّجَلِّي، فَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الْبَيَانِ وَهُوَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ فَقَطْ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مُفِيدٍ مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ وَفِعْلِهِ وَسُكُوتِهِ وَاسْتِبْشَارِهِ حَيْثُ يَكُونُ دَلِيلًا وَتَنْبِيهُهُ بِفَحْوَى الْكَلَامِ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ كُلُّ ذَلِكَ بَيَانٌ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ دَلِيلٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ فَهُوَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ قَطْعًا دَلِيلٌ وَبَيَانٌ وَهُوَ كَالنَّصِّ. نَعَمْ كُلُّ مَا لَا يُفِيدُ عِلْمًا وَلَا ظَنًّا ظَاهِرًا فَهُوَ مُجْمَلٌ وَلَيْسَ بِبَيَانٍ بَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْبَيَانِ، وَالْعُمُومُ يُفِيدُ ظَنَّ الِاسْتِغْرَاقِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ لِيَصِيرَ الظَّنُّ عِلْمًا فَيَتَحَقَّقَ الِاسْتِغْرَاقُ أَوْ يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ فَيَتَحَقَّقَ الْخُصُوصُ. وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ تَقَدُّمِهِ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ بَيَانُ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا صِيغَةَ لَهُ.
[مَسْأَلَةٌ فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ]
ِ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ، أَمَّا تَأْخِيرُهُ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ فَجَائِزٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِ الظَّاهِرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ. وَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْمُجْمَلِ فَقَالُوا: يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ إذْ لَا يَحْصُلُ مِنْ الْمُجْمَلِ جَهْلٌ. وَأَمَّا الْعَامُّ فَإِنَّهُ يُوهِمُ الْعُمُومَ، فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَخَّرَ بَيَانُهُ، مِثْلَ قَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: ٥] فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الْبَيَانُ لَهُ أَوْهَمَ جَوَازَ قَتْلِ غَيْرِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَدَّى ذَلِكَ إلَى قَتْلِ مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ. وَالْمُجْمَلُ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: ١٤١] يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مُجْمَلٌ لَا يَسْبِقُ إلَى الْفَهْمِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: حُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا سَأُفَصِّلُهُ، أَوْ: اُقْتُلْ فُلَانًا غَدًا بِآلَةٍ سَأُعَيِّنُهَا مِنْ سَيْفٍ أَوْ سِكِّينٍ.
وَفَرَّقَ طَوَائِفُ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَبَيْنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَلَمْ يُجَوِّزُوا تَأْخِيرَ الْبَيَانِ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ مَسَالِكُ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُمْتَنِعًا لَكَانَ لِاسْتِحَالَتِهِ فِي ذَاتِهِ أَوْ لِإِفْضَائِهِ إلَى مُحَالٍ وَكُلُّ ذَلِكَ يُعْرَفُ بِضَرُورَةٍ أَوْ نَظَرٍ، وَإِذَا انْتَفَى الْمَسْلَكَانِ ثَبَتَ الْجَوَازُ وَهَذَا دَلِيلٌ يَسْتَعْمِلُهُ الْقَاضِي فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ؛ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُورَثُ الْعِلْمُ بِبُطْلَانِ الْإِحَالَةِ وَلَا بِثُبُوتِ الْجَوَازِ، إذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَ مَا ذَكَرَهُ وَفَصَّلَهُ دَلِيلٌ عَلَى الْإِحَالَةِ لَمْ يَخْطِرْ لَهُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا لَا عَلَى الْإِحَالَةِ وَلَا عَلَى الْجَوَازِ.
فَعَدَمُ الْعِلْمِ بِدَلِيلِ الْجَوَازِ لَا يُثْبِتُ الْإِحَالَةَ، وَكَذَلِكَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِدَلِيلِ الْإِحَالَةِ لَا يُثْبِتُ الْجَوَازَ، بَلْ عَدَمُ الْعِلْمِ بِدَلِيلِ الْإِحَالَةِ لَا يَكُونُ عِلْمًا؛ لِعَدَمِ الْإِحَالَةِ، فَلَعَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلًا وَلَمْ نَعْرِفْهُ، بَلْ لَوْ عَرَفْنَا انْتِفَاءَ دَلِيلِ الْإِحَالَةِ لَمْ يَثْبُتْ الْجَوَازُ، بَلْ لَعَلَّهُ مُحَالٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يَعْرِفُهُ آدَمِيٌّ، فَمِنْ أَيْنَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ جَائِزٍ وَمُحَالٍ فِي مَقْدُورِ الْآدَمِيِّ مَعْرِفَتُهُ؟
الثَّانِي: أَنَّهُ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ لِلِامْتِثَالِ وَإِمْكَانِهِ، وَلِأَجْلِهِ يَحْتَاجُ إلَى الْقُدْرَةِ وَالْآلَةِ، ثُمَّ جَازَ تَأْخِيرُ الْقُدْرَةِ وَخَلْقِ الْآلَةِ فَكَذَلِكَ الْبَيَانُ وَهَذَا أَيْضًا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْفَعُ لَوْ اعْتَرَفَ الْخَصْمُ بِأَنَّهُ يُحِيلُهُ لِتَعَذُّرِ الِامْتِثَالِ وَلَعَلَّهُ يُحِيلُهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَجْهِيلٍ أَوْ لِكَوْنِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute