دَلَالَاتٍ لَمْ يَبْقَ مَعَهَا شَكٌّ فِي أَنَّ حِفْظَ خُطَّةِ الْإِسْلَامِ وَرِقَابَ الْمُسْلِمِينَ أَهَمُّ فِي مَقَاصِدِ الشَّرْعِ مِنْ حِفْظِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فِي سَاعَةٍ أَوْ نَهَارٍ وَسَيَعُودُ الْكُفَّارُ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ، فَهَذَا مِمَّا لَا يُشَكُّ فِيهِ، كَمَا أَبَحْنَا أَكْلَ مَالِ الْغَيْرِ بِالْإِكْرَاهِ لِعِلْمِنَا بِأَنَّ الْمَالَ حَقِيرٌ فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الدَّمِ وَعُرِفَ ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا فَهِمْتُمْ أَنَّ حِفْظَ الْكَثِيرِ أَهَمُّ مِنْ حِفْظِ الْقَلِيلِ فِي مَسْأَلَةِ السَّفِينَةِ وَفِي الْإِكْرَاهِ وَفِي الْمَخْمَصَةِ قُلْنَا: لَمْ نَفْهَمْ ذَلِكَ، إذْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ شَخْصَانِ عَلَى قَتْلِ شَخْصٍ لَا يَحِلُّ لَهُمَا قَتْلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِينَ أَكْلُ مُسْلِمٍ فِي الْمَخْمَصَةِ، فَمَنَعَ الْإِجْمَاعُ مِنْ تَرْجِيحِ الْكَثْرَةِ.
أَمَّا تَرْجِيحُ الْكُلِّيِّ فَمَعْلُومٌ إمَّا عَلَى الْقَطْعِ وَإِمَّا بِظَنٍّ قَرِيبٍ مِنْ الْقَطْعِ يَجِبُ اتِّبَاعُ مِثْلِهِ فِي الشَّرْعِ وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ عَلَى خِلَافِهِ بِخِلَافِ الْكَثْرَةِ؛ إذْ الْإِجْمَاعُ فِي الْإِكْرَاهِ وَفِي الْمَخْمَصَةِ مَنَعَ مِنْهُ. فَبِهَذِهِ الشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا يَجُوزُ اتِّبَاعُ الْمَصَالِحِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِصْلَاحَ لَيْسَ أَصْلًا خَامِسًا بِرَأْسِهِ بَلْ مَنْ اسْتَصْلَحَ فَقَدْ شَرَّعَ كَمَا أَنَّ مَنْ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ، وَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الِاسْتِصْلَاحَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي الْقُطْبِ الثَّانِي مِنْ الْأُصُولِ.
[الْقُطْبُ الثَّالِثُ فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِنْ مُثْمِرَاتِ الْأُصُولِ]
[صَدْر الْقُطْب الثَّالِث وَفِيهِ ثَلَاثَة فنون]
[الْفَنُّ الْأَوَّلُ فِي الْمَنْظُومِ وَكَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِالصِّيغَةِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ وَالْوَضْعُ]
[الْمُقَدِّمَةُ وَتَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعَةِ فُصُولٍ]
[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي مَبْدَإِ اللُّغَاتِ]
الْقُطْبُ الثَّالِثُ فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِنْ مُثْمِرَاتِ الْأُصُولِ
وَيَشْتَمِلُ هَذَا الْقُطْبُ عَلَى صَدْرٍ وَمُقَدِّمَةٍ وَثَلَاثَةِ فُنُونٍ. صَدْرُ الْقُطْبِ الثَّالِثِ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقُطْبَ هُوَ عُمْدَةُ عِلْمِ الْأُصُولِ.
لِأَنَّ مَيْدَانَ سَعْيِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي اقْتِبَاس الْأَحْكَامِ مِنْ أُصُولِهَا وَاجْتِنَائِهَا مِنْ أَغْصَانِهَا إذْ نَفْسُ الْأَحْكَامِ لَيْسَتْ تَرْتَبِطُ بِاخْتِيَارِ الْمُجْتَهِدِينَ وَرَفْعُهَا وَوَضْعُهَا. وَالْأُصُولُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْعَقْلِ لَا مَدْخَلَ لِاخْتِيَارِ الْعِبَادِ فِي تَأْسِيسِهَا وَتَأْصِيلِهَا، وَإِنَّمَا مَجَالُ اضْطِرَابِ الْمُجْتَهِدِ وَاكْتِسَابِهِ اسْتِعْمَالُ الْفِكْرِ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ وَاقْتِبَاسِهَا مِنْ مَدَارِكِهَا، وَالْمَدَارِكُ هِيَ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَمَرْجِعُهَا إلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذْ مِنْهُ يُسْمَعُ الْكِتَابُ أَيْضًا وَبِهِ يُعْرَفُ الْإِجْمَاعُ. وَالصَّادِرُ مِنْهُ مِنْ مَدَارِكِ الْأَحْكَامِ ثَلَاثَةٌ: إمَّا لَفْظٌ، وَإِمَّا فِعْلٌ، وَإِمَّا سُكُوتٌ وَتَقْرِيرٌ. وَنَرَى أَنْ نُؤَخِّرَ الْكَلَامَ فِي الْفِعْلِ وَالسُّكُوتِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِمَا أَوْجَزُ وَاللَّفْظُ إمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْحُكْمِ بِصِيغَتِهِ وَمَنْظُومِهِ، أَوْ بِفَحْوَاهُ وَمَفْهُومِهِ، أَوْ بِمَعْنَاهُ وَمَعْقُولِهِ، وَهُوَ الِاقْتِبَاسُ الَّذِي يُسَمَّى قِيَاسًا. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ فُنُونٍ الْمَنْظُومِ وَالْمَفْهُومِ وَالْمَعْقُولِ.
الْفَنُّ الْأَوَّلُ: فِي الْمَنْظُومِ وَكَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِالصِّيغَةِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ وَالْوَضْعُ.
وَيَشْتَمِلُ هَذَا الْفَنُّ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَأَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فِي الْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ، الْقِسْمُ الثَّانِي: فِي الظَّاهِرِ وَالْمُؤَوَّلِ، الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، الْقِسْمُ الرَّابِعُ: فِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ. فَهَذَا صَدْرُ هَذَا الْقُطْبِ. أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ: فَتَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعَةِ فُصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي مَبْدَإِ اللُّغَاتِ أَنَّهُ اصْطِلَاحٌ أَمْ تَوْقِيفٌ، الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي أَنَّ اللُّغَةَ هَلْ تَثْبُتُ قِيَاسًا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ، الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ، الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِي اللَّفْظِ الْمُفِيدِ وَغَيْرِ الْمُفِيدِ، الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي طَرِيقِ فَهْمِ الْمُرَادِ مِنْ الْخِطَابِ عَلَى الْجُمْلَةِ، الْفَصْلُ السَّابِعُ: فِي الْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ.