مُؤَدٍّ فِي وَقْتِهِ كَمَا سَبَقَ فِي الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ.
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: حَالُ الْمَرِيضُ، فَإِنْ كَانَ لَا يَخْشَى الْمَوْتَ مِنْ الصَّوْمِ فَهُوَ كَالْمُسَافِرِ، أَمَّا الَّذِي يَخْشَى الْمَوْتَ أَوْ الضَّرَرَ الْعَظِيمَ فَيَعْصِي بِتَرْكِ الْأَكْلِ فَيُشْبِهُ الْحَائِضَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَلَوْ صَامَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُ عَاصٍ بِهِ فَكَيْفَ يَتَقَرَّبُ بِمَا يَعْصِي بِهِ؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا عَصَى بِجِنَايَتِهِ عَلَى الرُّوحِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ كَالْمُصَلِّي فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ يَعْصِي لَتَنَاوُلِهِ حَقَّ الْغَيْرِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: قَدْ قِيلَ لِلْمَرِيضِ كُلْ فَكَيْفَ يُقَالُ لَهُ لَا تَأْكُلْ، وَهُوَ مَعْنَى الصَّوْمِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالْغَصْبِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهُ قِيلَ لَهُ لَا تُهْلِكْ نَفْسَكَ وَقِيلَ لَهُ صُمْ، فَلَمْ يَعْصِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَائِمٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ سَعْيُهُ فِي الْهَلَاكِ، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ فَإِنَّهُ نَهْيٌ لِتَرْكِ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ إلَى أَكْلِ الْقَرَابِينِ وَالضَّحَايَا وَهِيَ ضِيَافَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَعْسُرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا جِدًّا. فَهَذِهِ احْتِمَالَاتٌ يَتَجَاذَبُهَا الْمُجْتَهِدُونَ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْعَقِدُ صَوْمُهُ فَتَسْمِيَةُ تَدَارُكِهِ قَضَاءً مَجَازٌ مَحْضٌ كَمَا فِي حَقِّ الْحَائِضِ، وَإِلَّا فَهُوَ كَالْمُسَافِرِ.
[الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ]
الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ.
اعْلَمْ أَنَّ الْعَزْمَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَصْدِ الْمُؤَكَّدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: ١١٥] أَيْ: قَصْدًا بَلِيغًا. وَسُمِّيَ بَعْضُ الرُّسُلِ أُولِي الْعَزْمِ لِتَأْكِيدِ قَصْدِهِمْ فِي طَلَبِ الْحَقِّ. وَالْعَزِيمَةُ فِي لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَزِمَ الْعِبَادَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالرُّخْصَةُ فِي اللِّسَانِ عِبَارَةٌ عَنْ الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ، يُقَالُ: رَخُصَ السِّعْرُ إذَا تَرَاجَعَ وَسَهُلَ الشِّرَاءُ، وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا وُسِّعَ لِلُمُكَلَّفِ فِي فِعْلِهِ لِعُذْرٍ وَعَجْزٍ عَنْهُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ، فَإِنَّ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا مِنْ صَوْمِ شَوَّالٍ وَصَلَاةِ الضُّحَى لَا يُسَمَّى رُخْصَةً وَمَا أَبَاحَهُ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَا يُسَمَّى رُخْصَةً، وَيُسَمَّى تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ رُخْصَةً، وَسُقُوطُ صَوْمِ رَمَضَانَ عَنْ الْمُسَافِرِ يُسَمَّى رُخْصَةً وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَهَذَا الِاسْمُ يُطْلَقُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا، فَالْحَقِيقَةُ فِي الرُّتْبَةِ الْعُلْيَا كَإِبَاحَةِ النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ بِسَبَبِ الْإِكْرَاه، وَكَذَلِكَ إبَاحَةُ شُرْبِ الْخَمْرِ وَإِتْلَافُ مَالِ الْغَيْرِ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ وَالْمَخْمَصَةُ وَالْغَصَصُ بِلُقْمَةٍ لَا يُسِيغُهَا إلَّا الْخَمْرُ الَّتِي مَعَهُ. وَأَمَّا الْمَجَازُ الْبَعِيدُ عَنْ الْحَقِيقَةِ، فَتَسْمِيَةُ مَا حُطَّ عَنَّا مِنْ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا فِي الْمِلَلِ الْمَنْسُوخَةِ رُخْصَةٌ وَمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا وَلَا عَلَى غَيْرِنَا لَا يُسَمَّى رُخْصَةً وَهَذَا لِمَا أُوجِبَ عَلَى غَيْرِنَا، فَإِذَا قَابَلْنَا أَنْفُسَنَا بِهِ حَسُنَ إطْلَاقُ اسْمِ الرُّخْصَةِ تَجَوُّزًا فَإِنَّ الْإِيجَابَ عَلَى غَيْرِنَا لَيْسَ تَضْيِيقًا فِي حَقِّنَا، وَالرُّخْصَةُ فُسْحَةٌ فِي مُقَابَلَةِ التَّضْيِيقِ. وَيَتَرَدَّدُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الدَّرَجَتَيْنِ صُوَرٌ بَعْضُهَا أَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ وَبَعْضُهَا أَقْرَبُ إلَى الْمَجَازِ، مِنْهَا الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُسَمَّى رُخْصَةً حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ وَهُوَ قَائِمٌ، وَقَدْ دَخَلَ الْمُسَافِرُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: ١٨٥] وَأُخْرِجَ عَنْ الْعُمُومِ بِعُذْرٍ وَعُسْرٍ. أَمَّا التَّيَمُّمُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَلَا يَحْسُنُ تَسْمِيَتُهُ رُخْصَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَكْلِيفُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مَعَ عَدَمِهِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: السَّبَبُ قَائِمٌ مَعَ اسْتِحَالَة التَّكْلِيفِ بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْكُفْرِ وَالشُّرْبِ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى التَّرْكِ. نَعَمْ تَجْوِيزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَرَضِ أَوْ الْجِرَاحَةِ أَوْ بُعْدِ الْمَاءِ عَنْهُ أَوْ بَيْعِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ رُخْصَةٌ، بَلْ التَّيَمُّمُ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ كَالْإِطْعَامِ عِنْدَ فَقْدِ الرَّقَبَةِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِرُخْصَةٍ بَلْ أَوْجَبَتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute