الرَّقَبَةَ فِي حَالَةٍ وَالْإِطْعَامَ فِي حَالَةٍ، فَلَا نَقُولُ السَّبَبُ قَائِمٌ عِنْدَ فَقْدِ الرَّقَبَةِ بَلْ الظِّهَارُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْعِتْقِ فِي حَالَةٍ وَلِوُجُوبِ الْإِطْعَامِ فِي حَالَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ سَبَبُ وُجُوبِ الْوُضُوءِ مُنْدَفِعًا عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ فَسَبَبُ تَحْرِيمِ الْكُفْرِ وَالشُّرْبِ وَالْمَيْتَةِ مُنْدَفِعٌ عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ، فَكَانَ الْمُحَرَّمُ مُحَرَّمًا بِشَرْطِ انْتِفَاءِ الْخَوْفِ. قُلْنَا الْمُحَرَّمُ فِي الْمَيْتَةِ الْخَبَثُ وَفِي الْخَمْرِ الْإِسْكَارُ وَفِي الْكُفْرِ كَوْنُهُ جَهْلًا بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ كَذِبًا عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْمُحَرَّمَاتُ قَائِمَةٌ وَقَدْ انْدَفَعَ حُكْمُهَا بِالْخَوْفِ، فَكُلُّ تَحْرِيمٍ انْدَفَعَ بِالْعُذْرِ وَالْخَوْفِ مَعَ إمْكَانِ تَرْكِهِ يُسَمَّى انْدِفَاعُهُ رُخْصَةً، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ تَغْيِيرُ الْعِبَارَةِ بِأَنْ يُجْعَلَ انْتِفَاءُ الْعُذْرِ شَرْطًا مَضْمُومًا إلَى الْمُوجِبِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالرُّخَصُ تَنْقَسِمُ إلَى مَا يُعْصَى بِتَرْكِهِ كَتَرْكِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالْإِفْطَارِ عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ، وَإِلَى مَا لَا يُعْصَى كَالْإِفْطَارِ وَالْقَصْرِ وَتَرْكِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَتَرْكِ قَتْلِ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يُسَمَّى مَا يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِهِ رُخْصَةً؟ وَكَيْفَ فُرِّقَ بَيْنَ الْبَعْضِ وَالْبَعْضِ؟ قُلْنَا: أَمَّا تَسْمِيَتُهُ رُخْصَةً وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً فَمِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهِ فُسْحَةً، إذْ لَمْ يُكَلَّفْ إهْلَاكَ نَفْسِهِ بِالْعَطَشِ وَجُوِّزَ لَهُ تَسْكِينُهُ بِالْخَمْرِ وَأُسْقِطَ عَنْهُ الْعِقَابُ. فَمِنْ حَيْثُ إسْقَاطُ الْعِقَابِ عَنْ فِعْلِهِ هُوَ فُسْحَةُ رُخْصَةٍ، وَمِنْ حَيْثُ إيجَابُ الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ هُوَ عَزِيمَةٌ. وَأَمَّا سَبَبُ الْفَرْقِ فَأُمُورٌ مَصْلَحِيَّةٌ رَآهَا الْمُجْتَهِدُونَ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهَا فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ الِاسْتِسْلَامَ لِلصَّائِلِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ وَقَالَ قَتْلُ غَيْرِهِ مَحْظُورٌ كَقَتْلِهِ وَإِنَّمَا جُوِّزَ لَهُ نَظَرًا لَهُ وَلَهُ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّ نَفْسِهِ إذَا قَابَلَهُ مِثْلُهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُهْلِكَ نَفْسَهُ لِيَمْتَنِعَ عَنْ مَيْتَةٍ وَخَمْرٍ، فَإِنَّ حِفْظَ الْمُهْجَةِ أَهَمُّ فِي الشَّرْعِ مِنْ تَرْكِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْر فِي حَالَةٍ نَادِرَةٍ.
وَمِنْهَا السَّلَمُ، فَإِنَّهُ بَيْعُ مَا لَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فِي الْحَالِ فَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ رُخْصَةٌ؛ لِأَنَّ عُمُومَ نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ يُوجِبُ تَحْرِيمَهُ، وَحَاجَةُ الْمُفْلِسِ اقْتَضَتْ الرُّخْصَةَ فِي السَّلَمِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ تَزْوِيجَ الْآبِقَةِ يَصِحُّ وَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ رُخْصَةً، فَإِذَا قُوبِلَ بِبَيْعِ الْآبِقِ فَهُوَ فُسْحَةٌ، لَكِنْ قِيلَ: النِّكَاحُ عَقْدٌ آخَرُ فَارَقَ شَرْطُهُ شَرْطَ الْبَيْعِ فَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: السَّلَمُ عَقْدٌ آخَرُ فَهُوَ بَيْعُ دَيْنٍ وَذَلِكَ بَيْعُ عَيْنٍ فَافْتَرَقَا، وَافْتِرَاقُهُمَا فِي الشَّرْطِ لَا يُلْحِقُ أَحَدَهُمَا بِالرُّخَصِ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَجَازًا، فَقَوْلُ الرَّاوِي: نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَأَرْخَصَ فِي السَّلَمِ، تَجَوُّزٌ فِي الْكَلَامِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ الرَّأْيِ قَالُوا: حَدُّ الرُّخْصَةِ أَنَّهُ الَّذِي أُبِيحَ مَعَ كَوْنِهِ حَرَامًا وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ، فَإِنَّ الَّذِي أُبِيحَ لَا يَكُونُ حَرَامًا. وَحَذَقَ بَعْضُهُمْ وَقَالَ: مَا أُرْخِصَ فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ حَرَامًا. وَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ لِأَنَّ التَّرْخِيصَ إبَاحَةٌ أَيْضًا.
وَقَدْ بَنَوْا هَذَا عَلَى أَصْلِهِمْ إذْ قَالُوا: الْكُفْرُ قَبِيحٌ لِعَيْنِهِ فَهُوَ حَرَامٌ فَبِالْإِكْرَاهِ رُخِّصَ لَهُ فِيمَا هُوَ قَبِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَعَنْ هَذَا لَوْ أَصَرَّ وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِالْكُفْرِ كَانَ مُثَابًا وَزَعَمُوا أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْإِفْطَارِ لَوْ لَمْ يُفْطِرْ يُثَابُ لِأَنَّ الْإِفْطَارَ قَبِيحٌ وَالصَّوْمَ قِيَامٌ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمُكْرَهُ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ أَيْضًا لَوْ اسْتَسْلَمَ قَالُوا: يُثَابُ، وَالْمُكْرَهُ عَلَى تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ زَعَمُوا أَنَّهُ يَأْثَمُ إنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ. وَفِي هَذِهِ التَّفَاصِيلِ نَظَرٌ فِقْهِيٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَحْضِ الْأُصُولِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُمْ إنَّهُ رُخِّصَ فِي الْحَرَامِ مُتَنَاقِضٌ لَا وَجْهَ لَهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ تَمَّ النَّظَرُ فِي الْقُطْبِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ النَّظَرُ فِي حَقِيقَةِ الْحُكْمِ وَأَقْسَامِهِ. فَلْنَنْظُرْ الْآنَ فِي مُثْمِرِ الْحُكْمِ وَهُوَ الدَّلِيلُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute