أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرُوهُ لَمَا جَازَ لِلْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقِبْلَةِ أَنْ يُصَلُّوا إلَى جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ مَعَ أَنَّ الْقِبْلَةَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدَةٌ وَلَمَّا جَازَ فِي الْكَفَّارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ أَنْ يُعْتِقَ وَاحِدٌ وَيَصُومَ آخَرُ وَلَمَا جَازَ لِلْمُضْطَرِّينَ إلَى مَيْتَةٍ لَا تَفِي بِرَمَقِ جَمِيعِهِمْ أَنْ يَتَقَارَعُوا وَلَمَّا جَازَ الِاجْتِهَادُ فِي أُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَتَقْدِيرِ النَّفَقَاتِ وَفِي مَصَالِحِ الْحَرْبِ وَكُلِّ مَا سَمَّيْنَاهُ بِتَحْقِيقٍ مَنَاطَ الْحُكْمِ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ ضَرُورِيٌّ فِي الدِّينِ، وَلَيْسَ مُرَادُنَا الِاخْتِلَافَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بَلْ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الِاخْتِلَافُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَعَلَى الْوُلَاةِ وَالْأَئِمَّةِ.
الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُمْ: حَسَمْتُمْ إمْكَانَ الْخَطَإِ فِي الِاجْتِهَادِ وَالصَّحَابَةُ مُجْمِعُونَ عَلَى الْحَذَرِ مِنْ الْخَطَإِ، حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَقُولُ فِي الْكَلَالَةِ بِرَأْيِي فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنْ الشَّيْطَانِ وَقَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: " إنْ لَمْ يَجْتَهِدُوا فَقَدْ غَشُّوا وَإِنْ اجْتَهَدُوا فَقَدْ أَخْطَئُوا، أَمَّا الْإِثْمُ فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ عَنْكَ زَائِلًا وَأَمَّا الدِّيَةُ فَعَلَيْكَ " وَلَمَّا كَتَبَ أَبُو مُوسَى كِتَابًا عَنْ عُمَرَ كَتَبَ فِيهِ " هَذَا مَا أَرَى اللَّهُ عُمَرَ " فَقَالَ امْحُهْ وَاكْتُبْ هَذَا مَا رَأَى عُمَرُ فَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنْ عُمَرَ وَقَالَ فِي جَوَابِ الْمَرْأَةِ الَّتِي رَدَّتْ عَلَيْهِ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَهْرِ حَيْثُ ذَكَرَتْ الْقِنْطَارَ فِي الْكِتَابِ: " أَصَابَتْ امْرَأَةٌ وَأَخْطَأَ عُمَرُ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي الْمُفَوِّضَةِ: " إنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ " بَعْدَ أَنْ اجْتَهَدَ شَهْرًا.
الْجَوَابُ أَنَّا نُثْبِتُ الْخَطَأَ فِي أَرْبَعَةِ أَجْنَاسٍ: " أَنْ يَصْدُرَ الِاجْتِهَادُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، أَوْ لَا يَسْتَتِمَّ الْمُجْتَهِدُ نَظَرَهُ، أَوْ يَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ بَلْ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، أَوْ يُخَالِفَ فِي اجْتِهَادِهِ دَلِيلًا قَاطِعًا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ مُثَارَاتِ إفْسَادِ الْقِيَاسِ، وَأَنَّا ذَكَرْنَا عَشَرَةَ أَوْجُهٍ تُبْطِلُ الْقِيَاسَ قَطْعًا لَا ظَنًّا، فَجَمِيعُ هَذَا مَجَالُ الْخَطَإِ.
وَإِنَّمَا يَنْتَفِي الْخَطَأُ مَتَى صَدَرَ الِاجْتِهَادُ مِنْ أَهْلِهِ وَتَمَّ فِي نَفْسِهِ وَوُضِعَ فِي مَحَلِّهِ وَلَمْ يَقَعْ مُخَالِفًا لِدَلِيلٍ قَاطِعٍ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ يَثْبُتُ اسْمُ الْخَطَإِ بِالْإِضَافَةِ إلَى طَلَبٍ لَا إلَى مَا وَجَبَ كَمَا فِي الْقِبْلَةِ وَتَحْقِيقِ مَنَاطِ الْأَحْكَامِ، فَمَنْ ذَكَرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَأَمَّا إنْ كَانَ اعْتَقَدَ أَنَّ الْخَطَأَ مُمْكِنٌ وَذَهَبَ مَذْهَبَ مَنْ قَالَ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ أَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَالَفَ دَلِيلًا قَاطِعًا غَفَلَ عَنْهُ، أَوْ لَمْ يَسْتَتِمَّ نَظَرَهُ وَلَمْ يَسْتَفْرِغْ تَمَامَ وُسْعِهِ، أَوْ يَخَافَ أَنْ لَا يَكُونَ أَهْلًا لِلنَّظَرِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَوْ أَمِنَ ذَلِكَ كُلَّهُ لَكِنْ قَالَ مَا قَالَ إظْهَارًا لِلتَّوَاضُعِ وَالْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَقُولُونَ: " أَنَا مُؤْمِنٌ بِاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ " مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا فِي إيمَانِهِمْ.
ثُمَّ جَمِيعُ مَا ذَكَرُوا أَخْبَارُ آحَادٍ لَا يَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ وَيَتَطَرَّقُ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ الْمَذْكُورُ فَلَا يَنْدَفِعُ بِهَا الْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا:
[مَسْأَلَةٌ نَفْيِ حُكْمٍ مُعَيَّنٍ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ]
مَسْأَلَةٌ: الْقَوْلُ فِي نَفْيِ حُكْمٍ مُعَيَّنٍ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ
أَمَّا مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ فَقَدْ وَضَعَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ حُكْمًا مُعَيَّنًا هُوَ قِبْلَةُ الطَّالِبِ وَمَقْصِدُ طَلَبِهِ فَيُصِيبُ أَوْ يُخْطِئُ؛ أَمَّا الْمُصَوِّبَةُ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى إثْبَاتِهِ وَإِلَيْهِ تُشِيرُ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلطَّالِبِ مِنْ مَطْلُوبٍ، وَرُبَّمَا عَبَّرُوا عَنْهُ بِأَنَّ مَطْلُوبَ الْمُجْتَهِدِ الْأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَشْبَهُ مُعَيَّنٌ عِنْدَ اللَّهِ. وَالْبُرْهَانُ الْكَاشِفُ لِلْغِطَاءِ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ الْمُبْهَمِ هُوَ أَنَّا نَقُولُ: الْمَسَائِلُ مُنْقَسِمَةٌ إلَى مَا وَرَدَ فِيهَا نَصٌّ وَإِلَى مَا لَمْ يَرِدْ، أَمَّا مَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ فَالنَّصُّ كَأَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ لَكِنْ لَا يَصِيرُ حُكْمًا فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ إلَّا إذَا بَلَغَهُ وَعَثَرَ عَلَيْهِ أَوَ كَانَ عَلَيْهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute