للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

دَلِيلٌ قَاطِعٌ يَتَيَسَّرُ مَعَهُ الْعُثُورُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يُقَصِّرْ فِي طَلَبِهِ، فَهَذَا مَطْلُوبُ الْمُجْتَهِدِ وَطَلَبُهُ وَاجِبٌ وَإِذَا لَمْ يُصِبْ فَهُوَ مُقَصِّرٌ آثِمٌ.

أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ إلَيْهِ طَرِيقٌ مُتَيَسِّرٌ قَاطِعٌ كَمَا فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُخَابَرَةِ وَتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ قَبْلَ بُلُوغِ الْخَبَرِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ فِي حَقِّ مَنْ بَلَغَهُ لَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ؛ لَكِنَّهُ عُرْضَةٌ أَنْ يَصِيرَ حُكْمًا فَهُوَ حُكْمٌ بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ حُكْمًا بِالْبُلُوغِ أَوْ تَيَسُّرِ طَرِيقِهِ عَلَى وَجْهٍ يَأْثَمُ مَنْ لَا يُصِيبُهُ. فَمَنْ قَالَ: فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَرَادَ بِهِ أَنَّهُ حُكْمٌ مَوْضُوعٌ لِيَصِيرَ حُكْمًا فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ إذَا بَلَغَهُ وَقَبْلَ الْبُلُوغِ وَتَيَسُّرِ الطَّرِيقِ لَيْسَ حُكْمًا فِي حَقِّهِ بِالْفِعْلِ بَلْ بِالْقُوَّةِ فَهُوَ صَادِقٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ غَيْرَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ.

أَمَّا الْمَسَائِلُ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَا حُكْمَ فِيهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى خِطَابُهُ وَخِطَابُهُ يُعْرَفُ بِأَنْ يُسْمَعَ مِنْ الرَّسُولِ أَوْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ سُكُوتِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُعَرِّفُنَا خِطَابَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ اسْتِمَاعِ صِيغَةٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ خِطَابٌ لَا مَسْمُوعٌ وَلَا مَدْلُولٌ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكُونُ فِيهِ حُكْمٌ؟ فَقَلِيلُ النَّبِيذِ إنْ اُعْتُقِدَ فِيهِ كَوْنُهُ عِنْدَ اللَّهِ حَرَامًا فَمَعْنَى تَحْرِيمِهِ أَنَّهُ قِيلَ فِيهِ: لَا تَشْرَبُوهُ.

وَهَذَا خِطَابٌ وَالْخِطَابُ يَسْتَدْعِي مُخَاطَبًا وَالْمُخَاطَبُ بِهِ هُمْ الْمَلَائِكَةُ أَوْ الْجِنُّ أَوْ الْآدَمِيُّونَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ بِهِ هُمْ الْمُكَلَّفُونَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ، وَمَتَى خُوطِبُوا وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهِ نَصٌّ بَلْ هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ غَيْرُ مَنْطُوقٍ بِهِ وَلَا مَدْلُولٍ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ سِوَى النُّطْقِ؛ فَإِذًا لَا يُعْقَلُ خِطَابٌ لَا مُخَاطَبَ بِهِ كَمَا لَا يُعْقَلُ عِلْمٌ لَا مَعْلُومَ لَهُ وَقَتْلٌ لَا مَقْتُولَ لَهُ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُخَاطَبَ مَنْ لَا يَسْمَعُ الْخِطَابَ وَلَا يَعْرِفُهُ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ. فَإِنْ قِيلَ: عَلَيْهِ أَدِلَّةٌ ظَنِّيَّةٌ.

قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَسْمِيَةَ الْأَمَارَاتِ أَدِلَّةً مَجَازٌ، فَإِنَّ الْأَمَارَاتِ لَا تُوجِبُ الظَّنَّ لِذَاتِهَا بَلْ تَخْتَلِفُ بِالْإِضَافَةِ، فَمَا لَا يُفِيدُ الظَّنَّ لِزَيْدٍ فَقَدْ يُفِيدُ لِعَمْرٍو وَمَا يُفِيدُ لِزَيْدٍ حُكْمًا فَقَدْ يُفِيدُ لِعَمْرٍو وَنَقِيضُهُ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهُ فِي حَقِّ زَيْدٍ فِي حَالَتَيْنِ فَلَا يَكُونُ طَرِيقًا إلَى الْمَعْرِفَةِ وَلَوْ كَانَ طَرِيقًا لَعَصَى إذَا لَمْ يُصِبْهُ، فَسَبَبُ هَذَا الْغَلَطِ إطْلَاقُ اسْمِ الدَّلِيلِ عَلَى الْأَمَارَاتِ مَجَازًا فَظُنَّ أَنَّهُ دَلِيلٌ مُحَقَّقٌ وَإِنَّمَا الظَّنُّ عِبَارَةٌ عَنْ مَيْلِ النَّفْسِ إلَى شَيْءٍ وَاسْتِحْسَانُ الْمَصَالِحِ كَاسْتِحْسَانِ الصُّوَرِ، فَمَنْ وَافَقَ طَبْعُهُ صُورَةً مَالَ إلَيْهَا وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْحُسْنِ، وَذَلِكَ قَدْ يُخَالِفُ طَبْعَ غَيْرِهِ فَيُعَبِّرُ عَنْهُ بِالْقُبْحِ حَيْثُ يَنْفِرُ عَنْهُ؛ فَالْأَسْمَرُ حَسَنٌ عِنْدَ قَوْمٍ قَبِيحٌ عِنْدَ قَوْمٍ، فَهِيَ أُمُورٌ إضَافِيَّةٌ لَيْسَ لَهَا حَقِيقَةٌ فِي نَفْسِهَا، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: الْأَسْمَرُ حَسَنٌ عِنْدَ اللَّهِ أَوْ قَبِيحٌ؟

قُلْنَا: لَا حَقِيقَةَ لِحُسْنِهِ وَقُبْحِهِ عِنْدَ اللَّهِ إلَّا مُوَافَقَتُهُ لِبَعْضِ الطِّبَاعِ وَمُخَالَفَتُهُ لِبَعْضِهَا، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا هُوَ عِنْدَ النَّاسِ، فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ عِنْدَ زَيْدٍ قَبِيحٌ عِنْدَ عَمْرٍو، إذْ لَا مَعْنَى لَحُسْنِهِ إلَّا مُوَافَقَتُهُ طَبْعَ زَيْدٍ وَلَا مَعْنَى لِقُبْحِهِ إلَّا مُخَالَفَتُهُ لِطَبْعِ عَمْرٍو. وَكَذَلِكَ تَحْرِيكُ الرَّغْبَةِ لِلْفَضَائِلِ وَالتَّفَاوُتُ فِي الْعَطَاءِ هُوَ حَسَنٌ عِنْدَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُوَافِقٌ لِرَأْيِهِ، وَهُوَ بِعَيْنِهِ لَيْسَ مُوَافِقًا لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَلْ الْحَسَنُ عِنْدَهُ أَنْ يَجْعَلَ الدُّنْيَا بَلَاغًا وَلَا يَلْتَفِتَ إلَيْهَا.

فَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ فِي الظُّنُونِ يَنْبَغِي أَنْ تُفْهَمَ حَتَّى يَنْكَشِفَ الْغِطَاءُ، وَإِنَّمَا غَلَطَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَصْفٌ لِلْأَعْيَانِ كَمَا ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ وَصْفٌ لِلذَّوَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نُطْقٌ وَلَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ فَلَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ نَازِلٌ مَوْضُوعٌ، لَكِنْ نَعْنِي بِالْأَشْبَهِ فِيمَا هُوَ قِبْلَةٌ لِلطَّالِبِ الْحُكْمَ الَّذِي كَانَ اللَّهُ يُنَزِّلُهُ لَوْ نَزَّلَهُ وَرُبَّمَا كَانَ الشَّارِعُ يَقُولُهُ لَوْ رُوجِعَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ. قُلْنَا: هَذَا هُوَ

<<  <   >  >>