اللَّفْظِ لَا مِنْ حَيْثُ صِيغَتُهُ، وَوَضْعُهُ بَلْ مِنْ حَيْثُ فَحْوَاهُ، وَإِشَارَتُهُ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْفَنُّ الثَّالِثُ، وَهُوَ اقْتِبَاسُ الْحُكْمِ مِنْ حَيْثُ مَعْنَاهُ، وَمَعْقُولُهُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَالْقَوْلُ فِيهِ طَوِيلٌ.
وَنَرَى أَنْ نُلْحِقَ بِآخَرِ الْفَنِّ الثَّانِي الْقَوْلَ فِي فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسُكُوتِهِ، وَوَجْهَ دَلَالَتِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُظَنّ أَنَّهُ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ الْقَوْلِ فِي الدَّلَالَةِ، ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ نَخُوضُ فِي الْفَنِّ الثَّالِثِ، وَهُوَ شَرْحُ الْقِيَاسِ.
[الْقَوْلُ فِي دَلَالَةِ أَفْعَالِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسُكُوتِهِ وَاسْتِبْشَارِهِ وَفِيهِ فُصُولٌ]
[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي دَلَالَةِ الْفِعْلِ]
الْقَوْلُ فِي دَلَالَةِ أَفْعَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَسُكُوتِهِ، وَاسْتِبْشَارِهِ، وَفِيهِ فُصُولٌ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي دَلَالَةِ الْفِعْلِ
وَنُقَدِّمُ عَلَيْهِ مُقَدَّمَةً فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ، فَنَقُولُ: لَمَّا ثَبَتَ بِبُرْهَانِ الْعَقْلِ صِدْقُ الْأَنْبِيَاءِ، وَتَصْدِيقُ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ، فَكُلُّ مَا يُنَاقِضُ مَدْلُولَ الْمُعْجِزَةِ فَهُوَ مُحَالٌ عَلَيْهِمْ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَيُنَاقِضُ مَدْلُولَ الْمُعْجِزَةِ جَوَازُ الْكُفْرِ، وَالْجَهْلِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَكِتْمَانِ رِسَالَةِ اللَّهِ، وَالْكَذِبِ، وَالْخَطَإِ، وَالْغَلَطِ فِيمَا يُبَلِّغُ، وَالتَّقْصِيرِ فِي التَّبْلِيغِ، وَالْجَهْلِ بِتَفَاصِيلِ الشَّرْعِ الَّذِي أُمِرَ بِالدَّعْوَةِ إلَيْهِ. أَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى مُفَارَقَةِ الذَّنْبِ فِيمَا يَخُصُّهُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّسَالَةِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى عِصْمَتِهِمْ عَنْهُ، عِنْدَنَا دَلِيلُ الْعَقْلِ بَلْ دَلِيلُ التَّوْقِيفِ، وَالْإِجْمَاعُ قَدْ دَلَّ عَلَى عِصْمَتِهِمْ عَنْ الْكَبَائِرِ، وَعِصْمَتِهِمْ أَيْضًا عَمَّا يُصَغِّرُ أَقْدَارَهُمْ مِنْ الْقَاذُورَاتِ كَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَاللِّوَاطِ، أَمَّا الصَّغَائِرُ فَقَدْ أَنْكَرَهَا جَمَاعَةٌ، وَقَالُوا: الذُّنُوبُ كُلُّهَا كَبَائِرُ فَأَوْجَبُوا عِصْمَتَهُمْ عَنْهَا.
، وَالصَّحِيحُ أَنَّ مِنْ الذُّنُوبِ صَغَائِرَ، وَهِيَ الَّتِي تُكَفِّرُهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَاجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ، وَكَمَا قَرَّرْنَا حَقِيقَتَهُ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ مِنْ كِتَابِ " إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ ". فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ تَثْبُتْ عِصْمَتُهُمْ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ؟ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يُعْصَمُوا لَنَفَرَتْ قُلُوبُ الْخَلْقِ عَنْهُمْ. قُلْنَا: لَا يَجِبُ عِنْدَنَا عِصْمَتُهُمْ مِنْ جَمِيعِ مَا يُنَفِّرُ فَقَدْ كَانَتْ الْحَرْبُ سِجَالًا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْكُفَّارِ، وَكَانَ ذَلِكَ يُنَفِّرُ قُلُوبَ قَوْمٍ عَنْ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يُعْصَمْ عَنْهُ، وَإِنْ ارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ مَعَ أَنَّهُ حُفِظَ عَنْ الْخَطِّ، وَالْكِتَابَةِ كَيْ لَا يَرْتَابُ الْمُبْطِلُونَ، وَقَدْ ارْتَابَ جَمَاعَةٌ بِسَبَبِ النَّسْخِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل: ١٠١] ، وَجَمَاعَةٌ بِسَبَبِ الْمُتَشَابِهَاتِ فَقَالُوا: كَانَ يَقْدِرُ عَلَى كَشْفِ الْغِطَاءِ لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَخَلَّصَ الْخَلْقَ مِنْ كَلِمَاتِ الْجَهْلِ، وَالْخِلَافِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: ٧] ، وَهَذَا لِأَنَّ نَفْيَ الْمُنَفِّرَاتِ لَيْسَ بِشَرْطِ دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ. هَذَا حُكْمُ الذُّنُوبِ أَمَّا النِّسْيَانُ، وَالسَّهْوُ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَخُصُّهُمْ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَلَا خِلَافَ فِي عِصْمَتِهِمْ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِتَبْلِيغِ الشَّرْعِ، وَالرِّسَالَةِ فَإِنَّهُمْ كُلِّفُوا تَصْدِيقَهُ جَزْمًا، وَلَا يُمْكِنُ التَّصْدِيقُ مَعَ تَجْوِيزِ الْغَلَطِ.
وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ عَلَيْهِ الْغَلَطُ فِيمَا شَرَعَهُ بِالِاجْتِهَادِ لَكِنْ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، أَمَّا مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْخَطَأُ عِنْدَهُ فِي اجْتِهَادِ غَيْرِهِ فَكَيْفَ فِي اجْتِهَادِهِ.
رَجَعْنَا إلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ أَفْعَالُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَمَا عُرِفَ بِقَوْلِهِ إنَّهُ تَعَاطَاهُ بَيَانًا لِلْوَاجِبِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» «وَخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» أَوْ عُلِمَ بِقَرِينَةِ الْحَالِ أَنَّهُ إمْضَاءٌ لِحُكْمٍ نَازِلٍ كَقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ مِنْ الْكُوعِ، فَهَذَا دَلِيلٌ، وَبَيَانٌ، وَمَا عُرِفَ أَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute