مُصَرِّحَةً بِتَجْوِيزِ الْخِلَافِ وَهَؤُلَاءِ اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ مَا سَوَّغُوهُ. وَإِمَّا أَنْ نَقُولَ إنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ وَلَكِنَّهُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَالْمَعْصِيَةُ مِنْ بَعْضِ الْأُمَّةِ جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانُوا كُلَّ الْأُمَّةِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ لَمْ يَخُضْ الصَّحَابَةُ فِيهَا، لَكِنَّ هَذَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ» إذْ يَكُونُ الْحَقُّ قَدْ ضَاعَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَلَعَلَّ مِنْ يَمِيلُ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ يَجْعَلُ الْحَدِيثَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ.
فَإِنْ قِيلَ: بِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ: هَذَا إجْمَاعٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ؟ وَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى قَوْلَيْنِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُعْثَرَ مِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى دَلِيلٍ يُعَيِّنُ الْحَقَّ فِي أَحَدِهِمَا. قُلْنَا: هَذَا تَحَكُّمٌ وَاخْتِرَاعٌ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا هَذَا الشَّرْطَ وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ فَلَا يُمْكِنُ الشَّرْطُ فِي الْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ، إذْ يَتَطَرَّقُ الِاحْتِمَالُ إلَيْهِ وَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ قَاطِعًا. وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إذَا أَجْمَعُوا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ عَنْ اجْتِهَادٍ فَقَدْ اتَّفَقُوا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَعْثُرَ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى دَلِيلٍ يُعَيِّنُ الْحَقَّ فِي خِلَافِهِ، وَقَدْ مَضَتْ الصَّحَابَةُ مُتَّفِقَةً عَلَى تَسْوِيغِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فَلَا يَجُوزُ خَرْقُ إجْمَاعِهِمْ.
[مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ رَجَعُوا إلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ]
مَسْأَلَةٌ إذَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ رَجَعُوا إلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ صَارَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ إجْمَاعًا قَاطِعًا عِنْدَ مَنْ شَرَطَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ وَيَخْلُصُ مِنْ الْإِشْكَالِ. أَمَّا نَحْنُ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فَالْإِجْمَاعُ الْأَوَّلُ وَلَوْ فِي لَحْظَةٍ قَدْ تَمَّ عَلَى تَسْوِيغِ الْخِلَافِ، فَإِذَا رَجَعُوا إلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَلَا يُمْكِنُنَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ نَقُولَ: هُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي اتِّفَاقِ التَّابِعِينَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الصَّحَابَةِ فَيَعْظُمُ الْإِشْكَالُ.
وَطُرُقُ الْخَلَاصِ عَنْهُ خَمْسَةٌ: أَحَدُهُمَا: أَنْ نَقُولَ هَذَا مُحَالٌ وُقُوعُهُ وَهُوَ كَفَرْضِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ رُجُوعِهِمْ بِأَجْمَعِهِمْ إلَى خِلَافِهِ، أَوْ اتِّفَاقِ التَّابِعِينَ عَلَى خِلَافِهِ وَالشَّارِطُونَ لِانْقِرَاضِ الْعَصْرِ يَتَّخِذُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عُمْدَةً لَهُمْ وَيَقُولُونَ مَثَلًا: إذَا اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ فَمَنْ ذَهَبَ إلَى بُطْلَانِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصِرَّ عَلَيْهِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ لِلْآخَرِينَ أَنْ يُوَافِقُوهُ مَهْمَا أَظْهَرَ لَهُمْ دَلِيلَ الْبُطْلَانِ؟ وَكَيْفَ يُحْجَرُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ أَنْ يُوَافِقَ مُخَالِفَهُ؟ قُلْنَا: هَذَا اسْتِبْعَادٌ مَحْضٌ، وَنَحْنُ نُحِيلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَنَاقُضِ الْإِجْمَاعَيْنِ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ الْأَوَّلَ قَدْ دَلَّ عَلَى تَسْوِيغِ الْخِلَافِ وَعَلَى إيجَابِ التَّقْلِيدِ عَلَى كُلِّ عَامِّيٍّ لِمَنْ شَاءَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا يَكُونُ الِاتِّفَاقُ عَلَى تَسْوِيغِ ذَلِكَ إلَّا عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ أَوْ كَالْقَاطِعِ فِي تَجْوِيزِهِ، وَكَيْف يُتَصَوَّرُ رَفْعُهُ، وَإِحَالَةُ وُقُوعِ هَذَا التَّنَاقُضِ فِي الْإِجْمَاعَيْنِ أَقْرَبُ مِنْ التَّحَكُّمِ بِاشْتِرَاطِ الْعَصْرِ؟ ثُمَّ يَبْقَى الْإِشْكَالُ فِي اتِّفَاقِ التَّابِعِينَ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ.
ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ الرُّجُوعُ إلَى أَحَدِهِمَا فِي الْقَطْعِيَّاتِ كَمَا رَجَعُوا إلَى قِتَالِ الْمَانِعِينَ لِلزَّكَاةِ بَعْدَ الْخِلَافِ وَإِلَى أَنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يُؤَثِّمُ مُخَالِفَهُ وَلَا يُجَوِّزُ مَذْهَبَهُ بِخِلَافِ الْمُجْتَهَدَاتِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ فِيهَا مَقْرُونٌ بِتَجْوِيزِ الْخِلَافِ وَتَسْوِيغِ الْأَخْذِ بِكُلِّ مَذْهَبٍ أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ. وَالْمَخْلَصُ الثَّانِي اشْتِرَاطُ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ فَإِنَّ اشْتِرَاطَهُ تَحَكُّمٌ. وَالْمَخْلَصُ الثَّالِثُ اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ مُسْتَنِدًا إلَى قَاطِعٍ لَا إلَى قِيَاسٍ وَاجْتِهَادٍ، فَإِنَّ مَنْ شَرَطَ هَذَا يَقُولُ لَا يَحْصُلُ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ إجْمَاعٌ عَلَى جَوَازِ كُلِّ مَذْهَبٍ بَلْ ذَلِكَ أَيْضًا مُسْتَنِدٌ إلَى اجْتِهَادٍ، فَإِذَا رَجَعُوا إلَى وَاحِدٍ فَالنَّظَرُ إلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ لِتَعَيُّنِ الْحَقِّ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ فِي أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ، وَهُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute