فَمُمْكِنٌ بِأَنْ يَقُولَ قَوْلًا يُوجِبُ عَلَى أُمَّتِهِ فِعْلًا دَائِمًا، وَأَشْعَرَهُمْ بِأَنَّ حُكْمَهُ فِيهِ حُكْمُهُمْ ابْتِدَاءً، وَنَسْخًا ثُمَّ فَعَلَ خِلَافَهُ أَوْ سَكَتَ عَلَى خِلَافِهِ كَانَ الْأَخِيرُ نَسْخًا، وَإِنْ أَشْكَلَ التَّارِيخُ وَجَبَ طَلَبُهُ، وَإِلَّا فَهُوَ مُتَعَارِضٌ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ فِي السَّارِقِ: «وَإِنْ سَرَقَ خَامِسَةً فَاقْتُلُوهُ» ثُمَّ «أُتِيَ بِمَنْ سَرَقَ خَامِسَةً فَلَمْ يَقْتُلْهُ» ، فَهَذَا إنْ تَأَخَّرَ فَهُوَ نَسْخُ الْقَوْلِ بِالْفِعْلِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ الْقَوْلُ فَهُوَ نَسْخُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ، وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إذَا تَعَارَضَا، وَأَشْكَلَ التَّارِيخُ يُقَدَّمُ الْقَوْلُ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بَيَانٌ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْفِعْلِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَخُصَّهُ، وَالْقَوْلُ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ يَتَأَكَّدُ بِالتَّكْرَارِ بِخِلَافِ الْفِعْلِ.
فَنَقُولُ: أَمَّا قَوْلُكُمْ إنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ بَيَانًا بِنَفْسِهِ فَمُسَلَّمٌ وَلَكِنَّ كَلَامَنَا فِي فِعْلٍ صَارَ بَيَانًا لِغَيْرِهِ وَبَعْدَ أَنْ صَارَ بَيَانًا لِغَيْرِهِ، فَلَا يَتَأَخَّرُ عَمَّا كَانَ بَيَانًا بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا خُصُوصُ الْفِعْلِ فَمُسَلَّمٌ أَيْضًا، وَلَكِنَّ كَلَامَنَا فِي فِعْلٍ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى خَاصِّيَّتِهِ، وَأَمَّا تَأْكِيدُ الْقَوْلِ بِالتَّكْرَارِ، إنْ عُنِيَ بِهِ أَنَّهُ إذَا تَوَاتَرَ أَفَادَ الْعِلْمَ، فَهَذَا مُسَلَّمٌ إذَا تَوَاتَرَ مِنْ أَشْخَاصٍ، فَلَيْسَ ذَلِكَ تَكْرَارًا، وَتَكْرَارُهُ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ لَا أَثَرَ لَهُ كَتَكْرَارِ الْفِعْلِ.
هَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي الْأَفْعَالِ الْمُلْحَقَةِ بِالْأَقْوَالِ، وَبَيَانُ مَا فِيهَا مِنْ الْبَيَانِ، وَالْإِجْمَالِ، وَلْنَشْتَغِلْ بَعْدَهَا بِالْفَنِّ الثَّالِثِ مِنْ الْقَطْبِ، وَهُوَ الْمَرْسُومُ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَدْلُولَاتِ بِمَعْقُولِهَا، وَمَعْنَاهَا، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى قِيَاسًا، فَلْنَخُضْ فِي شَرْحِ كِتَابِ الْقِيَاسِ مُسْتَعِينِينَ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
[الْفَنُّ الثَّالِثُ فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالِاقْتِبَاسِ مِنْ مَعْقُولِ الْأَلْفَاظِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ]
[مُقَدِّمَةٌ فِي حَدِّ الْقِيَاسِ]
الْفَنُّ الثَّالِثُ: فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالِاقْتِبَاسِ مِنْ مَعْقُولِ الْأَلْفَاظِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ.
وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ، وَأَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ الْأَوَّلُ: فِي إثْبَاتِ أَصْلِ الْقِيَاسِ عَلَى مُنْكِرِيهِ. الثَّانِي: فِي طَرِيقِ إثْبَاتِ الْعِلَّةِ. الثَّالِثُ: فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ. الرَّابِعُ: فِي أَرْكَانِ الْقِيَاسِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْأَصْلُ، وَالْفَرْعُ، وَالْعِلَّةُ، وَالْحُكْمُ، وَبَيَانُ شُرُوطِ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ. مُقَدِّمَةٌ: فِي حَدِّ الْقِيَاسِ.، وَحَدُّهُ أَنَّهُ حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا بِأَمْرٍ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا مِنْ إثْبَاتِ حُكْمٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ نَفْيِهِمَا عَنْهُمَا. ثُمَّ إنْ كَانَ الْجَامِعُ مُوجِبًا لِلِاجْتِمَاعِ عَلَى الْحُكْمِ كَانَ قِيَاسًا صَحِيحًا، وَإِلَّا كَانَ فَاسِدًا، وَاسْمُ الْقِيَاسِ يَشْتَمِلُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْفَاسِدِ فِي اللُّغَةِ، وَلَا بُدَّ فِي كُلِّ قِيَاسٍ مِنْ فَرْعٍ، وَأَصْلٍ، وَعِلَّةٍ، وَحُكْمٍ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْفَرْعِ، وَالْأَصْلِ كَوْنُهُمَا مَوْجُودَيْنِ بَلْ رُبَّمَا يُسْتَدَلُّ بِالنَّفْيِ عَلَى النَّفْيِ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ نَقُلْ حَمْلُ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ عِنْدَنَا، وَأَبْدَلْنَا لَفْظَ الشَّيْءِ بِالْمَعْلُومِ، وَلَمْ نَقُلْ حَمْلُ فَرْعٍ عَلَى أَصْلٍ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَنْبُو هَذَا اللَّفْظُ عَنْ الْمَعْدُومِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَبْعُدُ إطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ بِتَأْوِيلٍ مَا، وَالْحُكْمُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إثْبَاتًا، وَالنَّفْيُ كَانْتِفَاءِ الضَّمَانِ، وَالتَّكْلِيفِ، وَالِانْتِفَاءُ أَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً فَلِذَلِكَ أَدْرَجْنَا الْجَمِيعَ فِي الْحَدِّ، وَدَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا الْحَدِّ اطِّرَادُهُ، وَانْعِكَاسُهُ. أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي حَدِّ الْقِيَاسِ: " إنَّهُ الدَّلِيلُ الْمُوَصِّلُ إلَى الْحَقِّ، أَوْ الْعِلْمُ الْوَاقِعُ بِالْمَعْلُومِ عَنْ نَظَرٍ أَوْ رَدِّ غَائِبٍ إلَى شَاهِدٍ "، فَبَعْضُ هَذَا أَعَمُّ مِنْ الْقِيَاسِ، وَبَعْضُهُ أَخَصُّ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِطْنَابِ فِي إبْطَالِهِ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ إطْلَاقُ الْفَلَاسِفَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute