الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: ٨٣] وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: ٧] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِي مَجَالِ النَّظَرِ حَقًّا مُتَعَيِّنًا يُدْرِكُهُ الْمُسْتَنْبِطُ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ رُبَّمَا أَرَادَ بِهِ الْحَقَّ فِيمَا الْحَقُّ فِيهِ وَاحِدٌ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ وَالْقَطْعِيَّاتِ، إذْ مِنْهَا مَا يُعْلَمُ بِطَرِيقٍ قَاطِعٍ نَظَرِيٍّ مُسْتَنْبَطٍ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، فَكُلُّ مَا أَفْضَى إلَيْهِ نَظَرُ عَالِمٍ فَهُوَ اسْتِنْبَاطُهُ وَتَأْوِيلُهُ وَهُوَ حَقٌّ مُسْتَنْبَطٌ وَتَأْوِيلٌ أُذِنَ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ دُونَ الْعَوَامّ وَجُعِلَ الْحَقُّ فِي حَقِّ الْعَوَامّ الْحَقَّ الَّذِي اسْتَنْبَطَهُ الْعُلَمَاءُ بِنَظَرِهِمْ وَتَأْوِيلِهِمْ فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَخْطِئَةِ الْبَعْضِ.
الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» فَدَلَّ أَنَّ فِيهِ خَطَأً وَصَوَابًا، وَقَدْ ادَّعَيْتُمْ اسْتِحَالَةَ الْخَطَإِ فِي الِاجْتِهَادِ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلِ: أَنَّ هَذَا هُوَ الْقَاطِعُ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُصِيبٌ إذْ لَهُ أَجْرٌ وَإِلَّا فَالْمُخْطِئُ الْحَاكِمُ بِغَيْرِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، كَيْفَ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ؟
الثَّانِي: هُوَ أَنَّا لَا نُنْكِرُ إطْلَاقَ اسْمِ الْخَطَإِ عَلَى سَبِيلِ الْإِضَافَةِ إلَى مَطْلُوبِهِ لَا إلَى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَطْلُبُ رَدَّ الْمَالِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَقَدْ يُخْطِئُ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُخْطِئًا فِيمَا طَلَبَهُ مُصِيبًا فِيمَا هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَهُوَ اتِّبَاعُ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ صِدْقِ الشُّهُودِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ اجْتَهَدَ فِي الْقِبْلَةِ، يُقَالُ: أَخْطَأَ أَيْ: أَخْطَأَ مَا طَلَبَهُ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى مَطْلُوبِهِ بَلْ الْوَاجِبُ اسْتِقْبَالُ جِهَةٍ يَظُنُّ أَنَّ مَطْلُوبَهُ فِيهَا.
فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ كَانَ لِلْمُصِيبِ أَجْرَانِ وَهُمَا فِي التَّكْلِيفِ وَأَدَاءِ مَا كُلِّفَا سَوَاءٌ؟ قُلْنَا: لِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ جَعَلَ لِلْمُخْطِئِ أَجْرَيْنِ لَكَانَ لَهُ ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يُضَاعِفَ الْأَجْرَ عَلَى أَخَفِّ الْعَمَلَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ تَفَضُّلٌ ثُمَّ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ وَحَكَمَ بِالنَّصِّ إذْ بَلَغَهُ، وَالْآخَرُ حَرَّمَ الْحُكْمَ بِالنَّصِّ إذْ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَلَمْ يُكَلَّفْ إصَابَتَهُ لِعَجْزِهِ فَفَاتَهُ فَضْلُ التَّكْلِيفِ وَالِامْتِثَالِ، وَهَذَا يَنْقَدِحُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فِيهَا نَصٌّ وَفِي كُلِّ اجْتِهَادٍ يَتَعَلَّقُ بِتَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ كَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَقَدْرِ كِفَايَةِ الْأَقَارِبِ فَإِنَّ فِيهَا حَقِيقَةً مُتَعَيِّنَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يُكَلَّفْ الْمُجْتَهِدُ طَلَبَهَا، وَهُوَ جَارٍ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا عِنْدَ مَنْ قَالَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ حُكْمٌ مُتَعَيِّنٌ وَأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَيَأْتِي وَجْهُ فَسَادِهِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: تَمَسُّكُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَت اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: ١٠٣] {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال: ٤٦] {وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: ١٠٥] {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: ١١٨] {إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: ١١٩] ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى الْحَثِّ عَلَى الْأُلْفَةِ وَالْمُوَافَقَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْفُرْقَةِ، فَدَلَّ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَمَذْهَبُكُمْ أَنَّ دِينَ اللَّهِ مُخْتَلِفٌ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا.
وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلِ: أَنَّ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ فِي الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالظَّنِّ كَاخْتِلَافِهِ بِاخْتِلَافِ السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ وَالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَالِاضْطِرَارِ وَالِاخْتِيَارِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي الِاجْتِهَادِ أَنْ يَحْكُمَ كُلُّ وَاحِدٍ بِمُوجِبِ اجْتِهَادِهِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ، وَالْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ الْمُخْتَلِفِ أَمْرٌ بِالِاخْتِلَافِ، فَهَذَا يَنْقَلِبُ عَلَيْكُمْ إشْكَالُهُ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا السُّؤَالُ مِنْ مُنْكِرِي أَصْلِ الِاجْتِهَادِ.
الثَّالِثِ: وَهُوَ جَوَابُ مُنْكِرِي أَصْلِ الِاجْتِهَادِ