للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تَجْوِيزُ بَعْثَتِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الشَّرِيعَةِ إذَا كَانَتْ قَدْ انْدَرَسَتْ وَإِرْسَالُهُ بِمِثْلِهَا إذَا كَانَتْ قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى زَوَائِدَ، وَأَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مَبْعُوثًا إلَى قَوْمٍ، وَالثَّانِي مَبْعُوثًا إلَيْهِمْ وَإِلَى غَيْرِهِمْ، وَلَعَلَّهُمْ يُخَالِفُونَ إذَا كَانَتْ الْأُولَى غَضَّةً طَرِيَّةً وَلَمْ تَشْتَمِلْ الثَّانِيَةُ عَلَى مَزِيدٍ فَنَقُولُ: يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نَصْبِ دَلِيلَيْنِ وَبَعْثَةِ رَسُولَيْنِ مَعًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: ١٤] وَكَمَا أَرْسَلَ مُوسَى وَهَارُونَ وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ، بَلْ كَخَلْقِ الْعَيْنَيْنِ مَعَ الِاكْتِفَاءِ فِي الْإِبْصَارِ بِإِحْدَاهُمَا.

ثُمَّ كَلَامُهُمْ بِنَاءً عَلَى طَلَبِ الْفَائِدَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ تَحَكُّمٌ أَمَّا الْوُقُوعُ السَّمْعِيُّ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ شَرْعَنَا لَيْسَ بِنَاسِخٍ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ بِالْكُلِّيَّةِ إذْ لَمْ يَنْسَخْ وُجُوبَ الْإِيمَانِ وَتَحْرِيمَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ وَالْكُفْرِ، وَلَكِنْ حَرَّمَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْمَحْظُورَاتِ بِخِطَابٍ مُسْتَأْنَفٍ أَوْ بِالْخِطَابِ الَّذِي نَزَلَ إلَى غَيْرِهِ وَتَعَبَّدَ بِاسْتِدَامَتِهِ وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْخِطَابُ إلَّا بِمَا خَالَفَ شَرْعَهُمْ، فَإِذَا نَزَلَتْ وَاقِعَةٌ لَزِمَهُ اتِّبَاعُ دِينِهِمْ إلَّا إذَا نَزَلَ عَلَيْهِ وَحْيٌ مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ فَإِلَى هَذَا يَرْجِعُ الْخِلَافُ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَبَّدْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ مَسَالِكَ:

الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاجْتِهَادِ» وَلَمْ يَذْكُرْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَشَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا فَزَكَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَوَّبَهُ.

وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَدَارِك الْأَحْكَامِ لَمَا جَازَ الْعُدُولُ إلَى الِاجْتِهَادِ إلَّا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ؛ لِأَنَّ فِي الْكِتَابِ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ إلَيْهِمَا. قُلْنَا سَنُبَيِّنُ سُقُوطَ تَمَسُّكِهِمْ بِتِلْكَ الْآيَاتِ، بَلْ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: ٤٨] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي» .

ثُمَّ نَقُولُ: فِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى ذِكْرِ الْكِتَابِ، فَإِنْ شَرَعَ فِي التَّفْصِيلِ كَانَتْ الشَّرِيعَةُ السَّابِقَةُ أَهَمَّ مَذْكُورٍ. فَإِنْ قِيلَ: انْدَرَجَتْ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ تَحْتَ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ اسْمٌ يَعُمُّ كُلَّ كِتَابٍ. قُلْنَا: إذَا ذُكِرَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَمْ يَسْبِقْ إلَى فَهْمِ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ سِوَى الْقُرْآنِ، وَكَيْفَ يُفْهَمُ غَيْرُهُ وَلَمْ يُعْهَدْ مِنْ مُعَاذٍ قَطُّ تَعَلُّمُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْعِنَايَةِ بِتَمْيِيزِ الْمُحَرَّفِ عَنْ غَيْرِهِ كَمَا عُهِدَ مِنْهُ تَعَلُّمُ الْقُرْآنِ؟ وَلَوْ وَجَبَ ذَلِكَ لَتَعَلَّمَهُ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُ كِتَابٌ مُنْزَلٌ لَمْ يُنْسَخْ إلَّا بَعْضُهُ وَهُوَ مُدْرِكٌ بَعْضَ الْأَحْكَامِ وَلَمْ يُتَعَهَّدْ حِفْظُ الْقُرْآنِ إلَّا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَكَيْفَ «وَطَالَعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرَقَةً مِنْ التَّوْرَاةِ فَغَضِبَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَقَالَ: لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي؟» .

الْمَسْلَكُ الثَّانِي: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِهَا لَلَزِمَهُ مُرَاجَعَتُهَا وَالْبَحْثُ عَنْهَا، وَلَكَانَ لَا يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ وَلَا يَتَوَقَّفُ فِي الظِّهَارِ وَرَمْيِ الْمُحْصَنَاتِ وَالْمَوَارِيثِ، وَلَكَانَ يَرْجِعُ أَوَّلًا إلَيْهَا لَا سِيَّمَا أَحْكَامٌ هِيَ ضَرُورَةُ كُلِّ أُمَّةٍ فَلَا تَخْلُو التَّوْرَاةُ عَنْهَا، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا لِانْدِرَاسِهَا وَتَحْرِيفِهَا فَهَذَا يَمْنَعُ التَّعَبُّدَ، وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَهَذَا يُوجِبُ الْبَحْثَ وَالتَّعَلُّمَ وَلَمْ يُرَاجِعْ قَطُّ إلَّا فِي رَجْمِ الْيَهُودِ لِيُعَرِّفَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مُخَالِفًا لِدِينِهِمْ.

<<  <   >  >>