للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَجْهَ إلَّا التَّوَقُّفُ. نَعَمْ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُحَرَّمٌ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْوُجُوبِ، وَالنَّدْبِ جَمِيعًا.

الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَانْتَهُوا» فَفَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى اسْتِطَاعَتِنَا، وَمَشِيئَتِنَا، وَجُزِمَ فِي النَّهْيِ طَلَبُ الِانْتِهَاءِ. قُلْنَا: هَذَا اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، وَالْوَضْعُ لَيْسَ لِلنَّدْبِ، وَاسْتِدْلَالٌ بِالشَّرْعِ، وَلَا يَثْبُتُ مِثْلُ ذَلِكَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَوْ صَحَّتْ دَلَالَتُهُ، كَيْفَ، وَلَا دَلَالَةَ لَهُ إذَا لَمْ يَقُلْ فَافْعَلُوا مَا شِئْتُمْ بَلْ قَالَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، كَمَا قَالَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: ١٦] ،، وَكُلُّ إيجَابٍ مَشْرُوطٌ بِالِاسْتِطَاعَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَانْتَهُوا} [الحشر: ٧] كَيْفَ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الِانْتِهَاءِ؟ وَقَوْلُهُ: {فَانْتَهُوا} [الحشر: ٧] صِيغَةُ أَمْرٍ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلنَّدْبِ.

شُبَهُ الصَّائِرِينَ إلَى أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ: وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي إبْطَالِ مَذْهَبِ النَّدْبِ جَارٍ هَاهُنَا، وَزِيَادَةٌ، وَهُوَ أَنَّ النَّدْبَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْأَمْرِ حَقِيقَةً كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْوُجُوبِ لَكَانَ مَجَازًا فِي النَّدْبِ، وَكَيْفَ يَكُونُ مَجَازًا فِيهِ مَعَ وُجُودِ حَقِيقَتِهِ؟ إذْ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ مَا يَكُونُ مُمْتَثِلُهُ مُطِيعًا، وَالْمُمْتَثِلُ مُطِيعٌ بِفِعْلِ النَّدْبِ وَلِذَلِكَ إذَا قِيلَ " أُمِرْنَا بِكَذَا حَسُنَ أَنْ يُسْتَفْهَمَ فَيُقَالَ: أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ، وَنَدْبٍ؟ وَلَوْ قَالَ: رَأَيْتُ أَسَدًا، لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُقَالَ: أَرَدْتُ سَبُعًا أَوْ شُجَاعًا لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلسَّبُعِ، وَيُصْرَفُ إلَى الشُّجَاعِ بِقَرِينَةٍ. وَشُبَهُهُمْ سَبْعٌ: الْأُولَى: قَوْلُهُمْ إنَّ الْمَأْمُورَ فِي اللُّغَةِ، وَالشَّرْعِ جَمِيعًا يَفْهَمُ وُجُوبَ الْمَأْمُورِ بِهِ حَتَّى لَا يَسْتَبْعِدَ الذَّمَّ، وَالْعِقَابَ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ، وَلَا الْوَصْفَ بِالْعِصْيَانِ، وَهُوَ اسْمُ ذَمٍّ وَلِذَلِكَ فَهِمَتْ الْأُمَّةُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ، وَالْعِبَادَاتِ، وَوُجُوبَ السُّجُودِ لِآدَمَ بِقَوْلِهِ: {اُسْجُدُوا} [البقرة: ٣٤] ، وَبِهِ يَفْهَمُ الْعَبْدُ، وَالْوَلَدُ وُجُوبَ أَمْرِ السَّيِّدِ، وَالْوَالِدِ. قُلْنَا هَذَا كُلُّهُ نَفْسُ الدَّعْوَى، وَحِكَايَةُ الْمَذْهَبِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مُسَلَّمًا، وَكُلُّ ذَلِكَ عُلِمَ بِالْقَرَائِنِ فَقَدْ تَكُونُ لِلْأَمْرِ عَادَةٌ مَعَ الْمَأْمُورِ، وَعَهْدٌ، وَتَقْتَرِنُ بِهِ أَحْوَالٌ، وَأَسْبَابٌ بِهَا يَفْهَمُ الشَّاهِدُ الْوُجُوبَ، وَاسْمُ الْعِصْيَانِ لَا يَسْلَمُ إطْلَاقُهُ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ إلَّا بَعْدَ قَرِينَةِ الْوُجُوبِ، لَكِنْ قَدْ يُطْلَقُ لَا عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ كَمَا يُقَالُ: أَشَرْتُ عَلَيْكَ فَعَصَيْتَنِي، وَخَالَفْتَنِي.

الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْإِيجَابَ مِنْ الْمُهِمَّاتِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ " افْعَلْ " عِبَارَةٌ عَنْهُ فَلَا يَبْقَى لَهُ اسْمٌ وَمُحَالٌ إهْمَالُ الْعَرَبِ ذَلِكَ. قُلْنَا: هَذَا يُقَابِلُهُ أَنَّ النَّدْبَ أَمْرٌ مُهِمٌّ فَلْيَكُنْ " افْعَلْ " عِبَارَةً عَنْهُ، فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ دَلَالَتَهُ قَوْلُهُمْ " نَدَبْتُ، وَأَرْشَدْتُ، وَرَغَّبْتُ " فَدَلَالَةُ الْوُجُوبِ قَوْلُهُمْ " أَوْجَبْتُ، وَحَتَّمْتُ، وَفَرَضْتُ، وَأَلْزَمْتُ ". فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُ صِيغَةُ إخْبَارٍ أَوْ صِيغَةُ إرْشَادٍ، فَأَيْنَ صِيغَةُ الْإِنْشَاءِ؟ عُورِضُوا بِمِثْلِهِ فِي النَّدْبِ، ثُمَّ يَبْطُلُ عَلَيْهِمْ بِالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالنِّكَاحِ إذْ لَيْسَ لَهَا إلَّا صِيغَةُ الْإِخْبَارِ، كَقَوْلِهِمْ: " بِعْتُ، وَزَوَّجْتُ "، وَقَدْ جَعَلَهُ الشَّرْعُ إنْشَاءً إذْ لَيْسَ لِإِنْشَائِهِ لَفْظٌ. الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ " افْعَلْ " إمَّا أَنْ يُفِيدَ الْمَنْعَ أَوْ التَّخْيِيرَ أَوْ الدُّعَاءَ، فَإِذَا بَطَلَ التَّخْيِيرُ، وَالْمَنْعُ تَعَيَّنَ الدُّعَاءُ، وَالْإِيجَابُ. قُلْنَا: بَلْ يَبْقَى قِسْمٌ رَابِعٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يُفِيدَ وَاحِدًا مِنْ

<<  <   >  >>