مَوْجُودٌ فِي أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَزِيَادَةُ ضَعْفِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ احْتِمَالِ الْخُصُوصِ، وَالْمَجَازِ إذْ الْقِيَاسُ رُبَّمَا يَكُونُ مُنْتَزَعًا مِنْ خَبَرِ وَاحِدٍ، فَيَتَطَرَّقُ الِاحْتِمَالُ إلَى أَصْلِهِ،، وَرُبَّمَا اسْتَنْبَطَهُ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ فَظَنَّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَا حُكْمَ لِاجْتِهَادِ غَيْرِ الْأَهْلِ، وَالْعُمُومُ لَا يَسْتَنِدُ إلَى اجْتِهَادٍ، وَرُبَّمَا يَسْتَدِلُّ عَلَى إثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِمَا يَظُنُّهُ دَلِيلًا، وَلَيْسَ بِدَلِيلٍ، وَرُبَّمَا لَا يَسْتَوْفِي جَمِيعَ أَوْصَافِ الْأَصْلِ، فَيَشِذَّ عَنْهُ وَصْفٌ دَاخِلٌ فِي الِاعْتِبَارِ، وَرُبَّمَا يَغْلَطُ فِي إلْحَاقِ الْفَرْعِ بِهِ لِفَرْقٍ دَقِيقٍ بَيْنَهُمَا لَمْ يَتَنَبَّهْ لَهُ فَمَظِنَّةُ الِاحْتِمَالِ، وَالْغَلَطِ فِي الْقِيَاسِ أَكْثَرُ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ جَمْعٌ بَيْنَ الْقِيَاسِ، وَبَيْنَ الْكِتَابِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ أَحَدِهِمَا أَوْ تَعْطِيلِهِمَا، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّقَابُلُ لَيْسَ فِيهِ جَمْعٌ بَلْ رَفْعٌ لِلْعُمُومِ، وَتَجْرِيدٌ لِلْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ حُجَّةُ الْوَاقِفِيَّةِ: قَالُوا: إذَا بَطَلَ كَلَامُ الْمُرَجِّحِينَ كَمَا سَبَقَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِيَاسِ، وَالْعُمُومِ دَلِيلٌ لَوْ انْفَرَدَ، وَقَدْ تَقَابَلَا، وَلَا تَرْجِيحَ، فَهَلْ يَبْقَى إلَّا التَّوَقُّفُ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ إمَّا أَنْ يُدْرَكَ بِعَقْلٍ أَوْ نَقْلٍ، وَالْعَقْلُ إمَّا نَظَرِيٌّ أَوْ ضَرُورِيٌّ، وَالنَّقْلُ إمَّا تَوَاتُرٌ أَوْ آحَادٌ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَيَجِبُ طَلَبُ دَلِيلٍ آخَرَ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي التَّعْيِينِ، وَلَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ قَبْلَ الْقَاضِي إلَى التَّوَقُّفِ، أَجَابَ الْقَاضِي: بِأَنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِبُطْلَانِ التَّوَقُّفِ قَطْعًا، وَلَمْ يُجْمِعُوا عَلَيْهِ لَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ رَأَى تَرْجِيحًا.
وَالْإِجْمَاعُ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَيْفَ، وَمَنْ لَا يَقْطَعُ بِبُطْلَانِ مَذْهَبِ مُخَالِفِهِ فِي تَرْجِيحِ الْقِيَاسِ كَيْفَ يَقْطَعُ بِخَطَئِهِ إنْ تَوَقَّفَ حُجَّةُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ جَلِيِّ الْقِيَاسِ، وَخَفِيِّهِ: وَهِيَ أَنَّ جَلِيَّ الْقِيَاسِ قَوِيٌّ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْعُمُومِ، وَالْخَفِيُّ ضَعِيفٌ.
ثُمَّ حُكِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْجَلِيَّ بِقِيَاسِ الْعِلَّةِ، وَالْخَفِيَّ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْجَلِيَّ مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَقْضِ الْقَاضِي، وَهُوَ غَضْبَانُ» ، وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ بِمَا يُدْهِشُ الْعَقْلَ عَنْ تَمَامِ الْفِكْرِ حَتَّى يَجْرِيَ فِي الْجَائِعِ، وَالْحَاقِنِ، خَفِيٌّ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ بَعِيدٍ، فَإِنَّ الْعُمُومَ يُفِيدُ ظَنًّا، وَالْقِيَاسَ يُفِيدُ ظَنًّا، وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَقْوَى فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ، فَيَلْزَمُهُ اتِّبَاعُ الْأَقْوَى، وَالْعُمُومُ تَارَةً يَضْعُفُ بِأَنْ لَا يَظْهَرَ مِنْهُ قَصْدُ التَّعْمِيمِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِأَنْ يَكْثُرَ الْمُخْرَجُ مِنْهُ، وَيَتَطَرَّقَ إلَيْهِ تَخْصِيصَاتٌ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: ٢٧٥] فَإِنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ» عَلَى تَحْرِيمِ الْأُرْزِ، وَالتَّمْرِ أَظْهَرُ مِنْ دَلَالَةِ هَذَا الْعُمُومِ عَلَى تَحْلِيلِهِ.
وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَخُصِّصَ بِهِ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: ١٤٥] ، وَإِذَا ظَهَرَ مِنْهُ التَّعْلِيلُ بِالْإِسْكَارِ فَلَوْ لَمْ يَرِدْ خَبَرٌ فِي تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ لَكَانَ إلْحَاقُ النَّبِيذِ بِالْخَمْرِ بِقِيَاسِ الْإِسْكَارِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ مِنْ بَقَائِهِ تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ: {لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: ١٤٥] ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَآيَةِ إحْلَالِ الْبَيْعِ لِكَثْرَةِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُمَا، وَلِضَعْفِ قَصْدِ الْعُمُومِ فِيهِمَا، وَلِذَلِكَ جَوَّزَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِي أَمْثَالِهِ دُونَ مَا بَقِيَ عَلَى الْعُمُومِ، وَلَكِنْ لَا يَبْعُدُ ذَلِكَ عِنْدَنَا أَيْضًا فِيمَا بَقِيَ عَامًّا لَا نَشُكُّ فِي أَنَّ الْعُمُومَاتِ بِالْإِضَافَةِ إلَى بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ تَخْتَلِفُ فِي الْقُوَّةِ لِاخْتِلَافِهَا فِي ظُهُورِ إرَادَةِ قَصْدِ ذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute