وَنَنْقُلُ الْآنَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِمْ بِالرَّأْيِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا سُئِلَ، عَنْ الْكَلَالَةِ: " أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ: الْكَلَالَةُ مَا عَدَا الْوَالِدَ، وَالْوَلَدَ ".، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ وَرَّثَ أُمَّ الْأُمِّ دُونَ أُمِّ الْأَبِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأَنْصَارِ: لَقَدْ وَرَّثْتَ امْرَأَةً مِنْ مَيِّتٍ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةَ لَمْ يَرِثْهَا، وَتَرَكْتَ امْرَأَةً لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةَ وَرِثَ جَمِيعَ مَا تَرَكَتْ فَرَجَعَ إلَى الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُمَا فِي السُّدُسِ. وَمِنْ ذَلِكَ حُكْمُهُ بِالرَّأْيِ فِي التَّسْوِيَةِ فِي الْعَطَاءِ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا نَجْعَلُ مَنْ تَرَكَ دِيَارَهُ، وَأَمْوَالَهُ مُهَاجِرًا إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ كُرْهًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا أَسْلَمُوا لِلَّهِ، وَأُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ، وَلَمَّا انْتَهَتْ الْخِلَافَةُ إلَى عُمَرَ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ، وَوَزَّعَ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَجَاتِهِمْ. وَاجْتِهَادُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ الْعَطَاءَ إذَا لَمْ يَكُنْ جَزَاءً عَلَى طَاعَتِهِمْ لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِهَا، وَاجْتِهَادُ عُمَرَ أَنَّهُ لَوْلَا الْإِسْلَامُ لَمَا اسْتَحَقُّوهَا، فَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفُوا، وَأَنْ يَجْعَلَ مَعِيشَةَ الْعَالِمِ أَوْسَعَ مِنْ مَعِيشَةِ الْجَاهِلِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أَقْضِي فِي الْجَدِّ بِرَأْيِي، وَأَقُولُ فِيهِ بِرَأْيِي "، وَقَضَى بِآرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَوْلُهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَحِمَ جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ فَلْيَقْضِ فِي الْجَدِّ بِرَأْيِهِ " أَيْ: الرَّأْيِ الْعَارِي عَنْ الْحُجَّةِ، وَقَالَ لَمَّا سَمِعَ الْحَدِيثَ فِي الْجَنِينِ: " لَوْلَا هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِرَأْيِنَا "، وَلَمَّا قِيلَ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْمُشْتَرَكَةِ: هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا أَلَسْنَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ؟ أَشْرَكَ بَيْنَهُمْ بِهَذَا الرَّأْيِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ: إنَّ سَمُرَةَ أَخَذَ مِنْ تُجَّارِ الْيَهُودِ الْخَمْرَ فِي الْعُشُورِ، وَخَلَّلَهَا، وَبَاعَهَا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ سَمُرَةَ أَمَا عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا، وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» ؟ فَقَاسَ عُمَرُ الْخَمْرَ عَلَى الشَّحْمِ، وَأَنَّ تَحْرِيمَهَا تَحْرِيمٌ لِثَمَنِهَا.
، وَكَذَلِكَ جَلَدَ أَبَا بَكْرَةَ لَمَّا لَمْ يُكَمِّلْ نِصَابَ الشَّهَادَةِ مَعَ أَنَّهُ جَاءَ شَاهِدًا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَا قَاذِفًا، لَكِنَّهُ قَاسَهُ عَلَى الْقَاذِفِ، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ أَنْ لَا تُبَاعَ وَرَأَيْتُ الْآنَ بَيْعَهُنَّ " فَهُوَ تَصْرِيحٌ بِالْقَوْلِ بِالرَّأْيِ.
وَكَذَلِكَ عَهِدَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: " اعْرِفْ الْأَشْبَاهَ، وَالْأَمْثَالَ ثُمَّ قِسْ الْأُمُورَ بِرَأْيِكَ ".
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُثْمَانَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ: " إنْ اتَّبَعْتَ رَأْيَكَ فَرَأْيُكَ أَسَدُّ، وَإِنْ تَتَّبِعْ رَأْيَ مَنْ قَبْلَكَ فَنِعْمَ الرَّأْيُ كَانَ "، فَلَوْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ لَمَا صَوَّبَهُمَا جَمِيعًا، وَقَالَ عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ: " أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ، وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ ".
، وَقَضَى عُثْمَانُ بِتَوْرِيثِ الْمَبْتُوتَةِ بِالرَّأْيِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِّ الشُّرْبِ مَنْ شَرِبَ هَذَى، وَمَنْ هَذَى افْتَرَى، فَأَرَى عَلَيْهِ حَدَّ الْمُفْتَرِي "، وَهُوَ قِيَاسٌ لِلشُّرْبِ عَلَى الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْقَذْفِ، الْتِفَاتًا إلَى أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ يُنَزِّلُ مَظِنَّةَ الشَّيْءِ مَنْزِلَتَهُ، كَمَا أَنْزَلَ النَّوْمَ مَنْزِلَةَ الْحَدِيثِ، وَالْوَطْءَ فِي إيجَابِ الْعِدَّةِ مَنْزِلَةَ حَقِيقَةِ شُغْلِ الرَّحِمِ، وَنَظَائِرِهِ.
، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُفَوَّضَةِ بِرَأْيِهِ بَعْدَ أَنْ اسْتَمْهَلَ شَهْرًا، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُوصِي مَنْ يَلِي الْقَضَاءَ بِالرَّأْيِ، وَيَقُولُ: " الْأَمْرُ فِي الْقَضَاءِ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَقَضَايَا الصَّالِحِينَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَاجْتَهِدْ رَأْيَكَ "، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَجْتَهِدُ رَأْيِي عِنْدَ فَقْدِ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ فَزَكَّاهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِمَنْ قَضَى بِتَفَاوُتِ الدِّيَةِ فِي الْأَسْنَانِ لِاخْتِلَافِ مَنَافِعِهَا: " كَيْفَ لَمْ يَعْتَبِرُوا الْأَصَابِعَ؟ ".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute