أَنْ يَذْكُرَ الْبَعْضَ، وَيَسْكُتَ عَنْ الْبَعْضِ، وَيُنَبِّهَ عَلَيْهَا تَنْبِيهًا يُحَرِّكُ الدَّوَاعِيَ لِلِاجْتِهَادِ {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: ١١] هَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُوجِبُ الصَّلَاحَ، وَعِنْدَنَا فَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ بِعِبَادِهِ مَا يَشَاءُ.
الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُمْ إنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ فِي الْأَصْلِ بِالنَّصِّ لَا بِالْعِلَّةِ، فَكَيْفَ يَثْبُتُ فِي الْفَرْعِ بِالْعِلَّةِ، وَهُوَ تَابِعٌ لِلْأَصْلِ؟ فَكَيْفَ يَكُونُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِيهِ بِطَرِيقٍ سِوَى طَرِيقِ الْأَصْلِ؟ وَإِنْ ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ بِالْعِلَّةِ فَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ النَّصَّ قَاطِعٌ، وَالْعِلَّةَ مَظْنُونَةٌ، وَالْحُكْمَ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَكَيْفَ يُحَالُ الْمَقْطُوعُ بِهِ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَظْنُونَةِ؟ قُلْنَا الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ يَثْبُتُ بِالنَّصِّ، وَفَائِدَةُ اسْتِنْبَاطِ الْعِلَّةِ الْمَظْنُونَةِ إمَّا تَعْدِيَةُ الْعِلَّةِ، وَإِمَّا الْوَقْفُ عَلَى مَنَاطِ الْحُكْمِ الْمَظْنُونِ لِلْمَصْلَحَةِ، وَإِمَّا زَوَالُ الْحُكْمِ عِنْد زَوَالِ الْمَنَاطِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ، وَإِمَّا الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ، وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لِلْأَصْلِ فِي الْحُكْمِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَتْبَعَهُ فِي الطَّرِيقِ فَإِنَّ الضَّرُورِيَّاتِ، وَالْمَحْسُوسَاتِ أَصْلٌ لِلنَّظَرِيَّاتِ، وَلَا يَلْزَمُ مُسَاوَاةُ الْفَرْعِ لَهَا فِي الطَّرِيقِ، وَإِنْ لَزِمَتْ الْمُسَاوَاةُ فِي الْحُكْمِ.
السَّادِسَةُ: وَهِيَ عُمْدَتُهُمْ الْكُبْرَى -: أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ،، وَالْعِلَّةُ غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا، فَلَوْ قَالَ الشَّارِعُ: اتَّقُوا الرِّبَا فِي كُلِّ مَطْعُومٍ، فَهُوَ تَوْقِيفٌ عَامٌ، وَلَوْ قَالَ: اتَّقُوا الرِّبَا فِي الْبُرِّ؛ لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ، فَهَذَا لَا يُسَاوِيهِ، وَلَا يَقْتَضِي الرِّبَا فِي غَيْرِ الْبُرِّ، كَمَا لَوْ قَالَ الْمَالِكُ: أَعْتِقْ مِنْ عَبِيدِي كُلَّ أَسْوَدَ عَتَقَ كُلُّ أَسْوَدَ، فَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْ غَانِمًا لِسَوَادِهِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ أَسْوَدُ، لَمْ يَعْتِقْ جَمِيعَ عَبِيدِهِ السُّودِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ عَلَّلَ بِمُخَيَّلٍ، وَقَالَ: أَعْتِقُوا غَانِمًا؛ لِأَنَّهُ سَيِّئُ الْخُلُقِ حَتَّى أَتَخَلَّصَ مِنْهُ، لَمْ يَلْزَمْ عِتْقُ سَالِمٍ، وَإِنْ كَانَ أَسْوَأَ خُلُقًا مِنْهُ، فَإِذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ الْمَنْصُوصَةُ لَا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهَا لِقُصُورِ لَفْظِهَا فَالْمُسْتَنْبَطَةُ كَيْفَ تُعَدَّى؟ أَوْ كَيْفَ يُفَرَّقُ بَيْنَ كَلَامِ الشَّارِعِ، وَبَيْنَ كَلَامِ غَيْرِهِ فِي الْفَهْمِ؟ وَإِنَّمَا مِنْهَاجُ الْفَهْمِ وَضْعُ اللِّسَانِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ ثَلَاثُ فِرَقٍ، وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ مِنْ فَرِيقَيْنِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ مِنْ الْفَرِيقِ الثَّالِثِ، إذْ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: التَّنْصِيصُ عَلَى الْعِلَّةِ كَذِكْرِ اللَّفْظِ الْعَامِّ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْن قَوْلِهِ: حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِشِدَّتِهَا، وَبَيْن قَوْلِهِ: حَرَّمْتُ كُلَّ مُشْتَدٍّ، فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُوجِبُ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ لَكِنْ بِطَرِيقِ اللَّفْظِ لَا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ بَلْ فَائِدَةُ قَوْلِهِ " لِشِدَّتِهَا " إقَامَةُ الشِّدَّةِ مُقَامَ الِاسْمِ الْعَامِّ فَقَدْ أَقَرَّ هَذَا الْقَائِلُ بِالْإِلْحَاقِ إنَّمَا أَنْكَرَ تَسْمِيَتَهُ قِيَاسًا الْفَرِيقُ الثَّانِي مِنْ الْقَاشَانِيَّةِ، والنهروانية؛ فَإِنَّهُمْ أَجَازُوا الْقِيَاسَ بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ فَقَالُوا: إذَا كَشَفَ النَّصُّ أَوْ دَلِيلٌ آخَرُ عَنْ الْأَصْلِ كَانَتْ الْعِلَّةُ جَامِعَةً لِلْحُكْمِ فِي جَمِيعِ مَجَارِيهَا، وَمَا فَارَقَهُمْ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ إلَّا فِي التَّسْمِيَةِ حَيْثُ لَمْ يُسَمُّوا هَذَا الْفَنَّ قِيَاسًا، وَالْفَرِيقَانِ مُقِرَّانِ بِأَنَّ هَذَا فِي الْعِتْقِ، وَالْوَكَالَةِ لَا يَجْرِي فَلَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الِاسْتِشْهَادُ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالْفَرْقِ.
أَمَّا الْفَرِيقُ الثَّالِثُ، وَهُوَ مَنْ أَنْكَرَ الْإِلْحَاقَ مَعَ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعِلَّةِ فَتَسْتَقِيمُ لَهُمْ هَذِهِ الْحُجَّةُ، وَجَوَابُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَتَشَوَّفُ إلَى التَّسْوِيَةِ، فَقَالَ: لَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ هَذَا الْعَبْدَ لِسَوَادِهِ فَاعْتَبِرُوا قِيسُوا عَلَيْهِ كُلَّ أَسْوَدَ، لَعَتَقَ كُلُّ عَبْدٍ أَسْوَدَ، وَهُوَ وِزَانُ مَسْأَلَتِنَا إذَا أُمِرْنَا بِالْقِيَاسِ، وَالِاعْتِبَارِ، وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ التَّعَبُّدُ بِهِ لَكَانَ مُجَرَّدُ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعِلَّةِ لَا يُرَخَّصُ فِي الْإِلْحَاقِ إذْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ شِدَّةَ الْخَمْرِ خَاصَّةً، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنْ عُلِمَ قَطْعًا قَصْدُهُ إلَى عِتْقِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute