للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قَوْلُنَا كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، أَخْذًا مِنْ النَّتِيجَةِ، فَإِنَّا نَقُولُ: فَكُلُّ نَبِيذٍ حَرَامٌ، فَتَذْكُرُ النَّبِيذَ أَوَّلًا ثُمَّ الْحَرَامَ، وَغَرَضُ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ سُهُولَةُ التَّعْرِيفِ عِنْدَ التَّفْصِيلِ وَالتَّحْقِيقِ.

وَمَهْمَا كَانَتْ الْمُقَدِّمَاتُ مَعْلُومَةً كَانَ الْبُرْهَانُ قَطْعِيًّا، وَإِنْ كَانَتْ مَنْظُومَةً كَانَ فِقْهِيًّا، وَإِنْ كَانَتْ مَمْنُوعَةً فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِهَا، وَأَمَّا بَعْدَ تَسْلِيمِهَا فَلَا يُمْكِنُ الشَّكُّ فِي النَّتِيجَةِ أَصْلًا بَلْ كُلُّ عَاقِلٍ صَدَّقَ بِالْمُقَدَّمَتَيْنِ فَهُوَ مُضْطَرٌّ إلَى التَّصْدِيقِ بِالنَّتِيجَةِ مَهْمَا أَحْضَرَهُمَا فِي الذِّهْنِ وَأَحْضَرَ مَجْمُوعَهُمَا بِالْبَالِ. وَحَاصِلُ وَجْه الدَّلَالَةِ فِي هَذَا النَّظْمِ أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الصِّفَةِ حُكْمٌ عَلَى الْمَوْصُوفِ؛ لِأَنَّا إذَا قُلْنَا: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ، جَعَلْنَا الْمُسْكِرَ وَصْفًا، فَإِذَا حَكَمْنَا عَلَى كُلِّ مُسْكِرٍ بِأَنَّهُ حَرَامٌ فَقَدْ حَكَمْنَا عَلَى الْوَصْفِ، فَبِالضَّرُورَةِ يَدْخُلُ الْمَوْصُوفُ فِيهِ فَإِنَّهُ إنْ بَطَلَ قَوْلُنَا النَّبِيذُ حَرَامٌ مَعَ كَوْنِهِ مُسْكِرًا بَطَلَ قَوْلُنَا كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ إذَا ظَهَرَ لَنَا مُسْكِرٌ لَيْسَ بِحَرَامٍ.

وَهَذَا الضَّرْبُ لَهُ شَرْطَانِ فِي كَوْنِهِ مُنْتِجًا: شَرْطٌ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُثْبِتَةً، فَإِنْ كَانَتْ نَافِيَةً لَمْ تُنْتِجْ لِأَنَّكَ إذَا نَفَيْتَ شَيْئًا عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ عَلَى النَّفْيِ حُكْمًا عَلَى الْمَنْفِيِّ عَنْهُ، فَإِنَّكَ إذَا قُلْتَ: لَا خَلَّ وَاحِدٌ مُسْكِرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ حُكْمٌ فِي الْخَلِّ إذَا وَقَعَتْ الْمُبَايَنَةُ بَيْنَ الْمُسْكِرِ وَالْخَلِّ، فَحُكْمُكَ عَلَى الْمُسْكِرِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْخَلِّ الشَّرْطُ الثَّانِي فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً كُلِّيَّةً حَتَّى يَدْخُلَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ عُمُومِهَا فِيهَا، فَإِنَّكَ إذَا قُلْتَ كُلُّ سَفَرْجَلٍ مَطْعُومٌ وَبَعْضُ الْمَطْعُومِ رِبَوِيٌّ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ كَوْنُ السَّفَرْجَلِ رِبَوِيًّا إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ عَلَى بَعْضِ الْمَطْعُومِ أَنْ يَتَنَاوَلَ السَّفَرْجَلَ.

نَعَمْ إذَا قُلْتَ وَكُلُّ مَطْعُومٍ رِبَوِيٌّ لَزِمَ فِي السَّفَرْجَلِ، وَيَثْبُتُ ذَلِكَ بِعُمُومِ الْخَبَرِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَبِمَاذَا يُفَارِقُ هَذَا الضَّرْبُ الضَّرْبَيْنِ الْآخَرَيْنِ بَعْدَهُ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعِلَّةَ إمَّا أَنْ تُوضَعَ مَحْكُومًا عَلَيْهَا فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ، أَوْ مَحْكُومًا بِهَا فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ، أَوْ تُوضَعَ حُكْمًا فِي إحْدَاهُمَا مَحْكُومَةً فِي الْأُخْرَى، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ النَّظْمُ الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ لَا يَتَّضِحَانِ غَايَةَ الِاتِّضَاحِ إلَّا بِالرَّدِّ إلَيْهِ فَلِذَلِكَ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. النَّظْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ حُكْمًا فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ، مِثَالُهُ قَوْلُنَا: الْبَارِي تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ؛ لِأَنَّ الْبَارِي غَيْرُ مُؤَلَّفٍ وَكُلُّ جِسْمٍ مُؤَلَّفٌ فَالْبَارِي تَعَالَى إذَنْ لَيْسَ بِجِسْمٍ.

فَهَهُنَا ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: الْبَارِي وَالْمُؤَلَّفُ وَالْجِسْمُ، وَالْمُكَرَّرُ هُوَ الْمُؤَلَّفُ فَهُوَ الْعِلَّةُ، وَتَرَاهُ خَبَرًا فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَحُكْمًا بِخِلَافِ الْمُسْكِرِ فِي النَّظْمِ الْأَوَّلِ إذْ كَانَ خَبَرًا فِي إحْدَاهُمَا مُبْتَدَأً فِي الْأُخْرَى وَوَجْهُ لُزُومِ النَّتِيجَةِ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ ثَبَتَ لِأَحَدِهِمَا مَا انْتَفَى عَنْ الْآخَرِ فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ، فَالتَّأْلِيفُ ثَابِتٌ لِلْجِسْمِ مُنْتَفٍ عَنْ الْبَارِي تَعَالَى، فَلَا يَكُونُ بَيْنَ مَعْنَى الْجِسْمِ وَبَيْنَ الْبَارِي الْتِقَاءٌ أَيْ لَا يَكُونُ الْبَارِي جِسْمًا وَلَا الْجِسْمُ هُوَ الْبَارِي تَعَالَى.

وَيُمْكِنُ بَيَانُ لُزُومِ النَّتِيجَةِ بِالرَّدِّ إلَى النَّظْمِ الْأَوَّلِ بِطَرِيقِ الْعَكْسِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِ " مِعْيَارُ الْعِلْمِ " وَكِتَابِ " مَحَكُّ النَّظَرِ " فَلَا نُطَوِّلُ الْآنَ بِهِ. وَهَذَا النَّظْمُ هُوَ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ بِالْفَرْقِ، إذْ يَقُولُونَ: الْجِسْمُ مُؤَلَّفٌ وَالْبَارِي غَيْرُ مُؤَلَّفٍ. وَخَاصِّيَّةُ هَذَا النَّظْمِ أَنَّهُ لَا يُنْتِجُ إلَّا قَضِيَّةً نَافِيَةً سَالِبَةً، وَأَمَّا النَّظْمُ الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ يُنْتِجُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ جَمِيعًا.

وَمِنْ شُرُوطِ هَذَا النَّظْمِ أَنْ تَخْتَلِفَ الْمُقَدِّمَتَانِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَإِنْ كَانَتَا مُثْبَتَتَيْنِ لَمْ يُنْتِجَا؛ لِأَنَّ حَاصِلَ هَذَا النَّظْمِ يَرْجِعُ إلَى الْحُكْمِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ عَلَى شَيْئَيْنِ، وَلِيس مِنْ

<<  <   >  >>