للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فِي مَسْأَلَةِ النِّيَّةِ طَهَارَتَانِ فَكَيْفَ يَفْتَرِقَانِ؟ وَقَدْ يُقَالُ: طَهَارَةٌ مُوجِبُهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ مُوجِبِهَا فَتَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ كَالتَّيَمُّمِ وَهَذَا يُوهِمُ الِاجْتِمَاعَ فِي مُنَاسِبٍ هُوَ مَأْخَذُ النِّيَّةِ وَأَنْ يَطَّلِعَ عَلَى ذَلِكَ الْمُنَاسِبِ.

الْمِثَالُ الثَّالِثُ: تَشْبِيهُ الْأُرْزِ وَالزَّبِيبِ بِالتَّمْرِ وَالْبُرِّ لِكَوْنِهِمَا مَطْعُومَيْنِ أَوْ قُوتَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إذَا قُوبِلَ بِالتَّشْبِيهِ بِكَوْنِهِمَا مُقَدَّرَيْنِ أَوْ مَكِيلَيْنِ ظَهَرَ الْفَرْقُ، إذْ يُعْلَمُ أَنَّ الرِّبَا ثَبَتَ لِسِرٍّ وَمَصْلَحَةٍ وَالطَّعْمُ وَالْقُوتُ وَصْفٌ يُنْبِئُ عَنْ مَعْنًى بِهِ قِوَامُ النَّفْسِ، وَالْأَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ تِلْكَ الْمَصْلَحَةَ فِي ضِمْنِهِمَا لَا فِي ضِمْنِ الْكَيْلِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَقْدِيرِ الْأَجْسَامِ.

وَالْمِثَالُ الرَّابِعُ: تَعْلِيلُنَا وُجُوبَ الضَّمَانِ فِي يَدِ السَّوْمِ بِأَنَّهُ أُخِذَ لِغَرَضِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ وَنُعَدِّيهِ إلَى يَدِ الْعَارِيَّةِ، وَتَعْلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ أُخِذَ عَلَى جِهَةِ الشِّرَاءِ وَالْمَأْخُوذُ عَلَى جِهَةِ الشِّرَاءِ كَالْمَأْخُوذِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَيُعَدِّيهِ إلَى الرَّهْنِ، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِلَّتَيْنِ لَيْسَتْ مُنَاسِبَةً وَلَا مُؤَثِّرَةً إذْ لَمْ يَظْهَرْ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فِي غَيْرِ يَدِ السَّوْمِ، وَهُوَ فِي يَدِ السَّوْمِ مُتَنَازَعٌ فِيهِ.

الْمِثَالُ الْخَامِسُ: قَوْلُنَا: إنَّ قَلِيلَ أَرْشِ الْجِنَايَةِ يُضْرَبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ كَالْكَثِيرَةِ، فَإِنَّا نَقُولُ: ثَبَتَ ضَرْبُ الدِّيَةِ وَضَرْبُ أَرْشِ الْيَدِ وَالْأَطْرَافِ وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُ مَعْنًى مُنَاسِبًا يُوجِبُ الضَّرْبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَإِنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْمُنَاسِبِ، لَكِنْ يُظَنُّ أَنَّ ضَابِطَ الْحُكْمِ الَّذِي تَمَيَّزَ بِهِ عَنْ الْأَمْوَالِ هُوَ أَنَّهُ بَدَلُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ فَهُوَ مَظِنَّةُ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي غَابَتْ عَنَّا.

الْمِثَالُ السَّادِسُ: قَوْلُنَا فِي مَسْأَلَةِ التَّبْيِيتِ: إنَّهُ صَوْمٌ مَفْرُوضٌ فَافْتَقَرَ إلَى التَّبْيِيتِ كَالْقَضَاءِ، وَهُمْ يَقُولُونَ: صَوْمُ عَيْنٍ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّبْيِيتِ كَالتَّطَوُّعِ، وَكَأَنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ فِي التَّطَوُّع وَمَنَعَ مِنْ الْقَضَاءِ، فَظَهَرَ لَنَا أَنَّ فَاصِلَ الْحُكْمِ هُوَ الْفَرْضِيَّةُ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَكْثُرُ شَبَهُهُ، رُبَّمَا يَنْقَدِحُ لِبَعْضِ الْمُنْكِرِينَ لِلشَّبَهِ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ إثْبَاتُ الْعِلَّةِ بِتَأْثِيرٍ أَوْ مُنَاسَبَةٍ أَوْ بِالتَّعَرُّضِ لِلْفَارِقِ وَإِسْقَاطِ أَثَرِهِ فَيَقُولُ: هِيَ مَأْخَذُ الَّذِي ظَهَرَ لِهَذَا النَّاظِرِ، وَعِنْدَ انْتِفَائِهِ يَبْقَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْإِيهَامِ وَهُوَ كَتَقْدِيرِنَا فِي تَمْثِيلِ الْمُنَاسِبِ بِإِسْكَارِ الْخَمْرِ عَدَمَ وُرُودِ الْإِيمَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: ٩١] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمِثَالَ لَيْسَ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ؛ فَإِنْ انْقَدَحَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى الْإِيهَامِ الْمَذْكُورِ فَلْيُقَدَّرْ انْتِفَاؤُهُ هَذَا حَقِيقَةُ الشَّبَهِ وَأَمْثِلَتُهُ.

وَأَمَّا إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّتِهِ فَهُوَ أَنَّ الدَّلِيلَ إمَّا أَنْ يُطْلَبَ مِنْ الْمُنَاظِرِ أَوْ يَطْلُبَهُ الْمُجْتَهِدُ مِنْ نَفْسِهِ، وَالْأَصْلُ هُوَ الْمُجْتَهِدُ، وَهَذَا الْجِنْسُ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَمَا مِنْ مُجْتَهِدٍ يُمَارِسُ النَّظَرَ فِي مَأْخَذِ الْأَحْكَامِ إلَّا وَيَجِدُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ فَمَنْ أَثَّرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ حَتَّى غَلَبَ ذَلِكَ عَلَى ظَنِّهِ فَهُوَ كَالْمُنَاسِبِ وَلَمْ يُكَلَّفْ إلَّا غَلَبَةَ الظَّنِّ فَهُوَ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ، وَمَنْ لَمْ يَغْلِبْ ذَلِكَ عَلَى ظَنِّهِ فَلَيْسَ لَهُ الْحُكْمُ بِهِ.

وَلَيْسَ مَعَنَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ يُبْطِلُ الِاعْتِمَادَ عَلَى هَذَا الظَّنِّ بَعْدَ حُصُولِهِ بِخِلَافِ الطَّرْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.

أَمَّا الْمُنَاظِرُ فَلَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ عَلَى الْخَصْمِ الْمُنْكِرِ؛ فَإِنَّهُ إنْ خَرَجَ إلَى طَرِيقِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ كَانَ ذَلِكَ طَرِيقًا مُسْتَقِلًّا لَوْ سَاعَدَ مِثْلُهُ فِي الطَّرْدِ لَكَانَ دَلِيلًا، وَإِذَا لَمْ يُسْبَرْ فَطَرِيقُهُ أَنْ يَقُولَ: هَذَا يُوهِمُ الِاجْتِمَاعَ فِي مَأْخَذِ الْحُكْمِ وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ وَالْخَصْمُ يُجَاحِدُ إمَّا مُعَانِدًا جَاحِدًا، وَإِمَّا صَادِقًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُوهَمُ عِنْدَهُ وَلَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ خَصْمِهِ، وَالْمُجْتَهِدُونَ الَّذِينَ أَفْضَى بِهِمْ النَّظَرُ إلَى أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْطَلِحُوا فِي الْمُنَاظَرَةِ عَلَى فَتْحِ بَابِ الْمُطَالَبَةِ

<<  <   >  >>