الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا عُرِفَ مِنْهُ مَنَاطُ الْحُكْمِ ثُمَّ اجْتَمَعَ مَنَاطَانِ مُتَعَارِضَانِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَيَجِبُ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمَنَاطَيْنِ ضَرُورَةً فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الشَّبَهِ، مِثَالُهُ: أَنَّ بَدَلَ الْمَالِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَبَدَلَ النَّفْسِ مُقَدَّرٌ وَالْعَبْدُ نَفْسٌ كَالْحُرِّ وَمَالٌ كَالْفَرَسِ فَإِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ بَدَلُهُ أَوْ لَا يُقَدَّرَ، فَتَارَةً يُشَبَّهُ بِالْفَرَسِ وَتَارَةً بِالْحُرِّ، وَذَلِكَ يَظْهَرُ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَقَدْ ظَهَرَ كَوْنُ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا الْمُشْكِلُ مِنْ الشَّبَهِ جَعْلُ الْوَصْفِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ مَنَاطًا مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يُضَفْ إلَيْهِ، وَهَهُنَا بِالِاتِّفَاقِ الْحُكْمُ يَنْضَافُ إلَى هَذَيْنِ الْمَنَاطَيْنِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: لَمْ يُوجَدْ فِيهِ كُلُّ مَنَاطٍ عَلَى الْكَمَالِ لَكِنْ تَرَكَّبَتْ الْوَاقِعَةُ مِنْ مَنَاطَيْنِ وَلَيْسَ يَتَمَحَّضُ أَحَدُهُمَا فَيُحْكَمُ فِيهِ بِالْأَغْلَبِ، مِثَالُهُ: أَنَّ اللِّعَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ وَلَيْسَ بِيَمِينٍ مَحْضٍ؛ لِأَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعِي لَا تُقْبَلُ، وَالْمُلَاعِنُ مُدَّعٍ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ يَشْهَدُ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ إنَّمَا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ، وَفِي اللِّعَانِ لَفْظُ الْيَمِينِ وَالشَّهَادَةِ؛ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ لَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَتَرَدَّدَ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ وَبَانَ لَنَا غَلَبَةُ إحْدَى الشَّائِبَتَيْنِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي أَنَّ الْحُكْمَ بِهِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ مِنْ الشَّبَهِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَكَذَلِكَ الظِّهَارُ لَفْظٌ مُحَرَّمٌ، وَهُوَ كَلِمَةُ زُورٍ فَيَدُورُ بَيْنَ الْقَذْفِ وَالطَّلَاقِ، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ تُرَدَّدُ بَيْنَ الْمُؤْنَةِ وَالْقُرْبَةِ، وَالْكَفَّارَةُ تُرَدَّدُ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ وَفِي مُشَابِهِهِمَا.
فَإِذَا تَنَاقَضَ حُكْمُ الشَّائِبَتَيْنِ، وَلَا يُمْكِنُ إخْلَاءُ الْوَاقِعَةِ عَنْ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، وَظَهَرَ دَلِيلٌ عَلَى غَلَبَةِ إحْدَى الشَّائِبَتَيْنِ وَلَمْ يَظْهَرْ مَعْنًى مُنَاسِبٌ فِي الطَّرَفَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِالْأَغْلَبِ الْأَشْبَهِ.
وَهَذَا أَشْبَهُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ بِمَأْخَذِ الشَّبَهِ، فَإِنَّا نَظُنُّ أَنَّ الْعَبْدَ مَمْنُوعٌ مِنْ الشَّهَادَةِ لِسِرٍّ فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَمُمَكَّنٌ مِنْ الْيَمِينِ لِمَصْلَحَةٍ، وَأَشْكَلَ الْأَمْرُ فِي اللِّعَانِ وَبَانَ أَنَّ إحْدَى الشَّائِبَتَيْنِ أَغْلَبُ فَيَكُونُ الْأَغْلَبُ عَلَى ظَنِّنَا بَقَاءَ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ الْمُودَعَةِ تَحْتَ الْمَعْنَى الْأَغْلَبِ.
فَإِنْ قِيلَ: وَبِمَ يُعْلَمُ الْمَعْنَى الْأَغْلَبُ الْمُعَيَّنُ؟ قُلْنَا: تَارَةً بِالْبَحْثِ عَنْ حَقِيقَةِ الذَّاتِ، وَتَارَةً بِالْأَحْكَامِ وَكَثْرَتِهَا، أَوْ تَارَةً بِقُوَّةِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَخَاصِّيَّتِهِ فِي الدَّلَالَةِ؛ وَهُوَ مَجَالُ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَإِنَّمَا يَتَوَلَّى بَيَانَهُ الْفَقِيهُ دُونَ الْأُصُولِيِّ.
وَالْغَرَضُ أَنَّهُ إذَا سُلِّمَ أَنَّ أَحَدَ الْمَنَاطَيْنِ أَغْلَبُ وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِالْحُكْمِ بِمُوجِبِهِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُخَلِّيَ عَنْ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ أَوْ يُحْكَمَ بِالْمَغْلُوبِ أَوْ بِالْغَالِبِ فَيَتَعَيَّنُ الْحُكْمُ بِالْغَالِبِ، فَكَيْفَ يُلْحَقُ هَذَا بِالشَّبَهِ الْمُشْكِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ؟ نَعَمْ لَوْ دَارَ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ وَأَشْبَهَ أَحَدَهُمَا وَصْفٌ لَيْسَ مَنَاطًا وَأَشْبَهَ الْآخَرَ فِي وَصْفَيْنِ لَيْسَا مَنَاطَيْنِ، فَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الْحُكْمِ بِالشَّبَهِ وَالْإِلْحَاقِ بِالْأَشْبَهِ، وَالْأَمْرُ فِيهِ إلَى الْمُجْتَهِدِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمُشَارَكَة فِي الْوَصْفَيْنِ تُوهِمُ الْمُشَارَكَةَ فِي الْمَصْلَحَةِ الْمَجْهُولَةِ عِنْدَهُ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ ذَلِكَ أَغْلَبَ فِي نَفْسِهِ مِنْ مُشَارَكَةِ الْأَصْلِ الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يُشْبِهْهُ إلَّا فِي صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَحُكِمَ هُنَا بِظَنِّهِ فَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الْحُكْمِ بِالشَّبَهِ، أَمَّا كُلُّ وَصْفٍ ظَهَرَ كَوْنُهُ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ فَاتِّبَاعُهُ مِنْ قَبِيلِ، قِيَاسِ الْعِلَّةِ لَا مِنْ قَبِيلِ قِيَاسِ الشَّبَهِ.
هَذَا مَا أَرَدْنَا ذِكْرَهُ فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ وَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ مِنْ تَتِمَّةِ الْبَابِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ نَظَرٌ فِي طَرِيقِ إثْبَاتِ عِلَّةِ الْأَصْلِ، لَكِنَّا أَفْرَدْنَاهُ بِبَابٍ لِكَيْ لَا يَطُولَ الْكَلَامُ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ. وَإِذْ فَرَغْنَا مِنْ طَرِيقِ إثْبَاتِ الْعِلَلِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ وَشُرُوطِهِ بَعْدَ ذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute