فَهَذَا قِيَاسٌ مَنْصُوصٌ عَلَى مَنْصُوصٍ وَهُوَ كَقِيَاسِ الْبُرِّ عَلَى الشَّعِيرِ وَالدَّرَاهِمِ عَلَى الدَّنَانِيرِ.
السَّادِسُ: قَالَ: قَوْمٌ: شَرْطُ الْأَصْلِ أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ بِجَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَعْلِيلِهِ
وَهَذَا كَلَامٌ مُخْتَلٌّ لَا أَصْلَ لَهُ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ حَيْثُ قَاسُوا لَفْظَ الْحَرَامِ عَلَى الظِّهَارِ أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ الْيَمِينِ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عِنْدَهُمْ عَلَى وُجُوبِ تَعْلِيلٍ أَوْ جَوَازِهِ، لَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ إنْ انْقَدَحَ فِيهِ مَعْنًى مُخَيَّلٌ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اتِّبَاعُهُ، وَتُرِكَ الِالْتِفَاتُ إلَى الْمَحَلِّ الْخَاصِّ، وَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ مَنْ قَبِيلِ الشَّبَهِ كَالطَّعْمِ الَّذِي يُنَاسِبُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَوْلَا ضَرُورَةُ جَرَيَانِ الرِّبَا فِي الدَّقِيقِ وَالْعَجِينِ وَامْتِنَاعِ ضَبْطِ الْحُكْمِ بِاسْمِ الْبُرِّ لَمَا وَجَبَ اسْتِنْبَاطُ الطَّعْمِ.
فَهَذَا لَهُ وَجْهٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ هَذَا فَلَا وَجْهَ لَهُ.
السَّابِعُ: أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ حُكْمُ الْأَصْلِ بِالتَّعْلِيلِ، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ إذَا عَكَّرَتْ عَلَى الْأَصْلِ بِالتَّخْصِيصِ فَلَا تُقْبَلُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّأْوِيلِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَبْدَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَعْنَى إنْ كَانَ سَابِقًا إلَى الْفَهْمِ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَرِينَةً مُخَصِّصَةً لِلْعُمُومِ؛ أَمَّا الْمُسْتَنْبَطُ بِالتَّأَمُّلِ فَفِيهِ نَظَرٌ.
الثَّامِنُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْأَصْلُ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ الْخَارِجَ عَنْ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ.
وَهَذَا مِمَّا أُطْلِقَ وَيَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ، فَنَقُولُ: قَدْ اشْتَهَرَ فِي أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْخَارِجَ عَنْ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَيُطْلَقُ اسْمُ الْخَارِجِ عَنْ الْقِيَاسِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ، وَتَارَةً عَلَى مَا اُسْتُفْتِحَ ابْتِدَاءً مِنْ قَاعِدَةٍ مُقَرَّرَةٍ بِنَفْسِهَا لَمْ تُقْطَعْ مِنْ أَصْلٍ سَابِقٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَفْتَحِ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ وَإِلَى مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، فَهِيَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ.
الْأَوَّلُ: مَا اُسْتُثْنِيَ عَنْ قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ وَخُصِّصَ بِالْحُكْمِ، وَلَا يُعْقَلُ مَعْنَى التَّخْصِيصِ فَلَا يُقَاسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ فُهِمَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّهِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَفِي الْقِيَاسِ إبْطَالُ الْخُصُوصِ الْمَعْلُومِ بِالنَّصِّ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إبْطَالِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ.
بَيَانُهُ مَا فُهِمَ مِنْ تَخْصِيصِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاسْتِثْنَائِهِ فِي تِسْعِ نِسْوَةٍ، وَفِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ عَلَى سَبِيلِ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ مَهْرٍ، وَفِي تَخْصِيصِهِ بِصَفِيِّ الْمَغْنَمِ وَمَا ثَبَتَ مِنْ تَخْصِيصِهِ خُزَيْمَةَ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَتَخْصِيصِهِ أَبَا بُرْدَةَ فِي الْعَنَاقِ أَنَّهَا تُجْزِي عَنْهُ فِي الضَّحِيَّةِ، فَهَذَا لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ وُرُودَ النَّسْخِ لِلْقَاعِدَةِ السَّابِقَةِ بَلْ وُرُودَ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ إبْقَاءِ الْقَاعِدَةِ فَكَيْفَ يُقَاسُ عَلَيْهِ؟ وَكَوْنُهُ خَاصِّيَّةً لِمَنْ وَرَدَ فِي حَقِّهِ تَارَةً يُعْلَمُ وَتَارَةً يُظَنُّ فَالْمَظْنُونُ كَاخْتِصَاصِ قَوْلِهِ: «لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَّهُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» وَقَوْلُهُ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ: «زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ» فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُرْفَعُ بِهِ قَاعِدَةُ الْغُسْلِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِينَ وَالشُّهَدَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ خَاصٌّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ خَاصًّا لِاطِّلَاعِهِ عَلَى إخْلَاصِهِمْ فِي الْعِبَادَةِ، وَنَحْنُ لَا نَطَّلِعُ عَلَى مَوْتِ غَيْرِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَضْلًا عَنْ مَوْتِهِمْ عَلَى الْإِحْرَامِ وَالشَّهَادَةِ.
وَلَمَّا قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي وَاقَعَ أَهْلَهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ» وَلَمْ يُقِرَّ الْكَفَّارَةَ فِي ذِمَّتِهِ عِنْد عَجْزِهِ وَجَعَلَ