الْأُصُولِيُّ إذْ لَا ذَاهِبَ إلَى تَجْوِيزِ الْقِيَاسِ حَيْثُ لَا تُعْقَلُ الْعِلَّةُ أَوْ لَا تَتَعَدَّى، وَهُمْ قَدْ سَاعَدُوا عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ حَيْثُ أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ الْعِلَّةِ وَتَعْدِيَتُهَا فَارْتَفَعَ الْخِلَافُ.
الْجَوَاب الثَّانِي: هُوَ أَنَّا نَذْكُرُ إمْكَانَ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ عَلَى مَنْهَجَيْنِ:
الْمَنْهَجِ الْأَوَّلِ: مَا لَقَّبْنَاهُ بِتَنْقِيحِ مَنَاطِ الْحُكْمِ فَتَقُول: قِيَاسُنَا اللَّائِطَ وَالنَّبَّاشَ عَلَى الزَّانِي وَالسَّارِقِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِخُرُوجِ النَّبَّاشِ وَاللَّائِطِ عَنْ اسْم الزَّانِي وَالسَّارِقِ - كَقِيَاسِكُمْ الْأَكْلَ عَلَى الْجِمَاعِ فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ مَعَ أَنَّ الْأَكْلَ لَا يُسَمَّى وِقَاعًا، وَقَدْ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَاقَعْتُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ هَذَا قِيَاسًا فَإِنَّا نَعْرِفُ بِالْبَحْثِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَيْسَتْ كَفَّارَةَ الْجِمَاعِ بَلْ كَفَّارَةَ الْإِفْطَارِ.
قُلْنَا: وَكَذَلِكَ نَقُولُ: لَيْسَ الْحَدُّ حَدَّ الزِّنَا بَلْ حَدُّ إيلَاجِ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ الْمُحَرَّمِ قَطْعًا الْمُشْتَهَى طَبْعًا، وَالْقَطْعُ قَطْعُ أَخْذِ مَالٍ مُحْرَزٍ لَا شُبْهَةَ لِلْآخِذِ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ عُلِّقَ الْحُكْمُ بِالزِّنَا لِعِلَّةِ كَذَا، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي غَيْرِ الزِّنَا، وَعُلِّقَتْ الْكَفَّارَةُ بِالْوِقَاعِ لِعِلَّةِ كَذَا، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْأَكْلِ، كَمَا يُقَالُ أُثْبِتَ التَّحْرِيمُ فِي الْخَمْرِ لِعِلَّةِ الشِّدَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي النَّبِيذِ، وَنَحْنُ فِي الْكَفَّارَةِ نُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ لِلْجِمَاعِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ فَنَتَعَرَّفُ مَحَلَّ الْحُكْمِ الْوَارِدِ شَرْعًا أَنَّهُ أَيْنَ وَرَدَ وَكَيْفَ وَرَدَ، وَلَيْسَ هَذَا قِيَاسًا، فَإِنْ اسْتَمَرَّ لَكُمْ مِثْلُ هَذَا فِي اللَّائِطِ وَالنَّبَّاشِ فَنَحْنُ لَا نُنَازِعُ فِيهِ.
قُلْنَا: فَهَذَا الطَّرِيقُ جَارٍ لَنَا فِي اللَّائِطِ وَالنَّبَّاشِ بِلَا فَرْقٍ، وَهُوَ نَوْعُ إلْحَاقٍ لِغَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ بِفَهْمِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ فَيُرْجَعُ النِّزَاعُ إلَى الِاسْمِ.
الْمَنْهَجِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّا نَقُول: إذَا انْفَتَحَ بَابُ الْمَنْهَجِ الْأَوَّلِ تَعَدَّيْنَا إلَى إيقَاعِ الْحُكْمِ وَالتَّعْلِيلِ بِهَا، فَإِنَّا لَسْنَا نَعْنِي بِالْحِكْمَةِ إلَّا الْمَصْلَحَةَ الْمُخَيَّلَةَ الْمُنَاسِبَةَ، كَقَوْلِنَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَقْضِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» إنَّهُ إنَّمَا جُعِلَ الْغَضَبُ سَبَبَ الْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ يُدْهِشُ الْعَقْلَ وَيَمْنَعُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْفِكْرِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْجُوعِ الْمُفْرِطِ وَالْعَطَشِ الْمُفْرِطِ وَالْأَلَمِ الْمُبَرِّحِ، فَنَقِيسُهُ عَلَيْهِ؛ وَكَقَوْلِنَا: إنَّ الصَّبِيَّ يُوَلَّى عَلَيْهِ لِحِكْمَةٍ وَهِيَ عَجْزُهُ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ، فَلَيْسَ الصِّبَا سَبَبَ الْوِلَايَةِ لِذَاتِهِ بَلْ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ، فَنَنْصِبُ الْجُنُونَ سَبَبًا قِيَاسًا عَلَى الصِّغَرِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ اتِّفَاقُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا أَوْجَبَ الْقَتْلَ عَلَى الْقَاتِلِ وَالشَّرِيكُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ عَلَى الْكَمَالِ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا اُقْتُصَّ مِنْ الْقَاتِلِ لِأَجْلِ الزَّجْرِ وَعِصْمَةِ الدِّمَاءِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي إلْحَاقَ الْمُشَارِكِ بِالْمُنْفَرِدِ وَنَزِيدُ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، وَنَقُولُ: هَذِهِ الْحِكْمَةُ جَرَيَانُهَا فِي الْأَطْرَافِ كَجَرَيَانِهَا فِي النُّفُوسِ، فَيُصَانُ الطَّرَفُ فِي الْقِصَاصِ عَنْ الْمُشَارِكِ كَمَا يُصَانُ عَنْ الْمُنْفَرِدِ وَكَذَلِكَ نَقُولُ: يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالْجَارِحِ لِحِكْمَةِ الزَّجْرِ وَعِصْمَةِ الدِّمَاءِ، فَالْمُثْقَلُ فِي مَعْنَى الْجَارِحِ بِالْإِضَافَةِ إلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ.
فَهَذِهِ تَعْلِيلَاتٌ مَعْقُولَةٌ فِي هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تَعْلِيلِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِالشِّدَّةِ وَتَعْلِيلِ وِلَايَةِ الصِّغَرِ بِالْعَجْزِ وَمَنْعِ الْحُكْمِ بِالْغَضَبِ فَإِنْ قِيلَ: الْمَانِعُ مِنْهُ أَنَّ الزَّجْرَ حِكْمَةٌ، وَهِيَ ثَمَرَةٌ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ بَعْدَ الْقِصَاصِ، وَتَتَأَخَّرُ عَنْهُ، فَكَيْفَ تَكُونُ عِلَّةَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ؟ بَلْ عِلَّةُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ الْقَتْلُ قُلْنَا مُسَلَّمٌ أَنَّ عِلَّةَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ الْقَتْلُ، لَكِنْ عِلَّةُ كَوْنِ الْقَتْلِ عِلَّةً لِلْقِصَاصِ الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ هِيَ الْعِلَّةُ دُونَ نَفْسِ الزَّجْرِ، وَالْحَاجَةُ سَابِقَةٌ، وَحُصُولُ الزَّجْرِ هُوَ الْمُتَأَخِّرُ؛ إذْ يُقَالُ: خَرَجَ الْأَمِيرُ عَنْ الْبَلَدِ لِلِقَاءِ زَيْدٍ وَلِقَاءُ زَيْدٍ يَقَعُ بَعْدَ خُرُوجِهِ، لَكِنْ تَكُونُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute