للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لِصِحَّتِهِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى وَفْقهِ فَتُنْتَقَضُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ بِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإِنَّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِ الْمَعْنَى إنْ دَلَّ عَلَى الْتِفَاتِ الشَّرْعِ فَقَطْعُ الْحُكْمِ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى إعْرَاضِ الشَّرْعِ؛ وَقَوْلُ الْقَائِلِ أَنَا أَتَّبِعُهُ إلَّا فِي مَحَلِّ إعْرَاضِ الشَّرْعِ بِالنَّصِّ، لَيْسَ هُوَ أَوْلَى مِمَّنْ قَالَ: أَعْرِضُ عَنْهُ إلَّا فِي مَحَلِّ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ إيَّاهُ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْحُكْمِ

وَعَلَى الْجُمْلَةِ يَجُوزُ أَنْ يُصَرِّحَ الشَّرْعُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَاسْتِثْنَاءِ صُورَةِ حُكْمٍ عَنْهَا، وَلَكِنْ إذَا لَمْ يُصَرِّحْ وَاحْتُمِلَ نَفْيُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ لِفَسَادِ الْعِلَّةِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ لِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ قَطْعِيَّةً كَانَ تَنْزِيلُهَا عَلَى التَّخْصِيصِ أَوْلَى مِنْ التَّنْزِيلِ عَلَى نَسْخِ الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَظْنُونَةً وَلَا مُسْتَنَدَ لِلظَّنِّ إلَّا إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي مَوْضِعٍ عَلَى وَفْقِهَا فَيَنْقَطِعُ هَذَا الظَّنُّ بِإِعْرَاضِ الشَّرْعِ عَنْ اتِّبَاعِهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ

وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَقِلَّةً مُؤَثِّرَةً كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ كَانَ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي لِانْتِفَاءِ حُكْمِ الْعِلَّةِ: أَنْ يَنْتَفِيَ لَا لِخَلَلٍ فِي نَفْسِ الْعِلَّةِ، لَكِنْ يَنْدَفِعُ الْحُكْمُ عَنْهُ بِمُعَارَضَةِ عِلَّةٍ أُخْرَى دَافِعَةٍ.

مِثَالُهُ قَوْلُنَا: إنَّ عِلَّةَ رِقِّ الْوَلَد مِلْكُ الْأُمِّ ثُمَّ الْمَغْرُورُ بِحُرِّيَّةِ جَارِيَةٍ يَنْعَقِدُ وَلَدُهُ حُرًّا وَقَدْ وُجِدَ رِقُّ الْأُمِّ وَانْتَفَى رِقُّ الْوَلَدِ، لَكِنَّ هَذَا انْعِدَامٌ بِطَرِيقِ الِانْدِفَاعِ بِعِلَّةٍ دَافِعَةٍ مَعَ كَمَالِ الْعِلَّةِ الْمُرِقَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْغُرْمَ يَجِبُ عَلَى الْمَغْرُورِ، وَلَوْلَا أَنَّ الرِّقَّ فِي حُكْمِ الْحَاصِلِ الْمُنْدَفِعِ لَمَا وَجَبَتْ قِيمَةُ الْوَلَدِ فَهَذَا النَّمَطُ لَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى الْمُنَاظِرِ وَلَا يُبَيِّنُ لِنَظَرِ الْمُجْتَهِدِ فَسَادًا فِي الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ هَهُنَا كَأَنَّهُ حَاصِلٌ تَقْدِيرًا.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ النَّقْضُ مَائِلًا عَنْ صَوْبِ جَرَيَانِ الْعِلَّةِ وَيَكُونُ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ لَا لِخَلَلٍ فِي رُكْنِ الْعِلَّةِ لَكِنْ لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهَا مَحَلَّهَا أَوْ شَرْطَهَا أَوْ أَهْلَهَا، كَقَوْلِنَا: السَّرِقَةُ عِلَّةُ الْقَطْعِ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِي النَّبَّاشِ فَلْيَجِبْ الْقَطْعُ. فَقِيلَ: يَبْطُلُ بِسَرِقَةِ مَا دُونَ النِّصَابِ وَسَرِقَةِ الصَّبِيِّ وَالسَّرِقَةُ مِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ، وَنَقُولُ: الْبَيْعُ عِلَّةُ الْمِلْكِ وَقَدْ جَرَى فَلْيَثْبُتْ الْمِلْكُ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ.

فَقِيلَ: هَذَا بَاطِلٌ بِبَيْعِ الْمُسْتَوْلَدَةِ وَالْمَوْقُوفِ وَالْمَرْهُونِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، فَهَذَا جِنْسٌ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ؛ لِأَنَّ نَظَرَهُ فِي تَحْقِيقِ الْعِلَّةِ دُونَ شَرْطِهَا وَمَحَلِّهَا فَهُوَ مَائِلٌ عَنْ صَوْبِ نَظَرِهِ.

أَمَّا الْمُنَاظِرُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ أَوْ يُقْبَلُ مِنْهُ الْعُذْرُ بِأَنَّ هَذَا مُنْحَرِفٌ عَنْ مَقْصَدِ النَّظَرِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ الْمَحَلِّ وَالشَّرْطِ؟ هَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ الْجَدَلِيُّونَ فِيهِ وَالْخَطْبُ فِيهِ يَسِيرٌ، فَالْجَدَلُ شَرِيعَةٌ وَضَعَهَا الْجَدَلِيُّونَ، وَإِلَيْهِمْ وَضْعُهَا كَيْف شَاءُوا وَتَكَلُّفُ الِاحْتِرَازِ أَجْمَعُ لِنَشْرِ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: بَيْعٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ وَصَادَفَ مَحَلَّهُ وَجَمَعَ شَرْطَهُ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ، وَيَقُولُ: سَرَقَ نِصَابًا كَامِلًا مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ فَيُفِيدُ الْقَطْعَ.

فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ النَّقْضَ إذَا وَرَدَ عَلَى صَوْبِ جَرَيَانِ الْعِلَّةِ، وَكَانَ مُسْتَثْنًى عَنْ الْقِيَاسِ لَمْ يُقْبَلْ، فَبِمَ يُعْرَفُ الِاسْتِثْنَاءُ وَمَا مِنْ مُعَلِّلٍ يَرِدُ عَلَيْهِ نَقْضٌ إلَّا وَهُوَ يَدَّعِي ذَلِكَ؟ قُلْنَا: أَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَلَا يُعَانِدُ نَفْسَهُ فَيَتَّبِعُ فِيهِ مُوجِبَ ظَنِّهِ، وَأَمَّا الْمُنَاظِرُ فَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ اضْطِرَارَ الْخَصْمِ إلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِهِ أَيْضًا، فَإِنَّ قِيَاسَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحَاجَةِ إلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ يُوجِبُ افْتِقَارَ الْحَجِّ إلَى التَّعْيِينِ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ قِيَاسِهِ أَيْضًا، فَإِنْ أَمْكَنَهُ إبْرَازُ قِيَاسٍ سِوَى مَسْأَلَةِ النَّقْضِ عَلَى قِيَاسِ نَفْسِهِ كَانَتْ عِلَّتُهُ الْمُطَّرِدَةُ أَوْلَى مِنْ عِلَّتِهِ الْمَنْقُوضَةِ وَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَى الْمُعَلِّلِ

<<  <   >  >>