للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْخِلَافُ.

الثَّانِي أَنَّا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الْفَائِدَةِ بَلْ لَهُ فَائِدَتَانِ:

الْأُولَى مَعْرِفَةُ بَاعِثِ الشَّرْعِ وَمَصْلَحَةِ الْحُكْمِ اسْتِمَالَةً لِلْقُلُوبِ إلَى الطُّمَأْنِينَةِ وَالْقَوْلِ بِالطَّبْعِ وَالْمُسَارَعَةِ إلَى التَّصْدِيقِ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ إلَى قَبُولِ الْأَحْكَامِ الْمَعْقُولَةِ الْجَارِيَةِ عَلَى ذَوْقِ الْمَصَالِحِ أَمْيَلُ مِنْهَا إلَى قَهْرِ التَّحَكُّمِ وَمَرَارَةِ التَّعَبُّدِ، وَلِمِثْلِ هَذَا الْغَرَضِ اُسْتُحِبَّ الْوَعْظُ وَذِكْرُ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَلَطَائِفِ مَعَانِيهَا، وَكَوْنُ الْمَصْلَحَةِ مُطَابِقَةً لِلنَّصِّ وَعَلَى قَدْرِ حَذْقِهِ يَزِيدُهَا حُسْنًا وَتَأْكِيدًا.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا إنَّمَا يَجْرِي فِي الْمُنَاسِبِ دُونَ الْأَوْصَافِ الشَّبَهِيَّةِ مِثْلَ النَّقْدِيَّةِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَقَدْ جَوَّزْتُمْ التَّعْلِيلَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ. قُلْنَا: تَعْرِيفُ الْأَحْكَامِ بِمَعَانٍ تُوهِمُ الِاشْتِمَالَ عَلَى مَصْلَحَةٍ وَمُنَاسَبَةٍ أَقْرَبُ إلَى الْعُقُولِ مِنْ تَعْرِيفِهَا بِمُجَرَّدِ الْإِضَافَةِ إلَى الْأَسَامِي فَلَا تَخْلُو مِنْ فَائِدَةٍ، ثُمَّ إنْ لَمْ تَجْرِ هَذِهِ الْفَائِدَةُ فِي الْعِلَّةِ الشَّبَهِيَّةِ فَالْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ جَارِيَةٌ.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَنْعُ مِنْ تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ عِنْدَ ظُهُورِ عِلَّةٍ أُخْرَى مُتَعَدِّيَةٍ إلَّا بِشَرْطِ التَّرْجِيحِ. فَإِنْ قِيلَ: تَمْتَنِعُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ لَا بِظُهُورِ عِلَّةٍ قَاصِرَةٍ بَلْ بِأَنْ لَا تَظْهَرَ عِلَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ، فَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ؟ وَإِنْ ظَهَرَتْ عِلَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ فَلَا يَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ بَلْ يُعَلَّلُ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ بِعِلَّتَيْنِ وَفِي الْفَرْعِ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ؟ قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ كُلَّ عِلَّةٍ مُخِيلَةٍ أَوْ شَبَهِيَّةٍ فَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْحُكْمِ وَتَتِمُّ بِالسَّبْرِ وَشَرْطُهُ الِاتِّحَادُ كَمَا سَبَقَ، فَإِذَا ظَهَرَتْ عِلَّةٌ أُخْرَى انْقَطَعَ الظَّنُّ، فَإِذَا ظَهَرَتْ عِلَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ يَجِبُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ فَإِنْ أَمْكَنَ التَّعْلِيلُ بِعِلَّةٍ قَاصِرَةٍ عَارَضَتْ الْمُتَعَدِّيَةَ وَدَفَعَتْهَا إلَّا إذَا اخْتَصَّتْ الْمُتَعَدِّيَةُ بِنَوْعِ تَرْجِيحٍ، فَإِذَا أَفَادَتْ الْقَاصِرَةُ دَفْعَ الْمُتَعَدِّيَةِ الَّتِي تُسَاوِيهَا وَالْمُتَعَدِّيَةُ دَفْعَ الْقَاصِرَةِ وَتَقَاوَمَا بَقِيَ الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَى النَّصِّ وَلَوْلَا الْقَاصِرَةُ لَتَعَدَّى الْحُكْمُ فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا تَصِحُّ الْعِلَّةُ بِفَائِدَتِهَا الْخَاصَّةِ.

وَفَائِدَةُ الْعِلَّةِ الْحُكْمُ بِالْفَرْعِ دُونَ حُكْمِ الْأَصْلِ؛ فَإِنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ لَا بِالْعِلَّةِ، إنَّمَا الَّذِي يُثْبِتُ الْعِلَّةَ حُكْمُ الْفَرْعِ إذْ فَائِدَتُهَا تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ تَعْدِيَةٌ فَلَا حُكْمَ لِلْعِلَّةِ. قُلْنَا: قَوْلُكُمْ فَائِدَةُ الْعِلَّةِ حُكْمُ الْفَرْعِ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ طَعْمُ الْبُرِّ وَلَا تُحَرَّمُ الذُّرَةُ بِطَعْمِ الْبُرِّ بَلْ بِطَعْمِ الذُّرَةِ، فَحُكْمُ الْفَرْعِ فَائِدَةُ عِلَّةٍ فِي الْفَرْعِ لَا فَائِدَةُ عِلَّةٍ فِي الْأَصْلِ.

وَقَوْلُكُمْ: حُكْمُهَا التَّعْدِيَةُ مُحَالٌ؛ فَإِنَّ لَفْظَ التَّعْدِيَةِ تَجَوُّزٌ وَاسْتِعَارَةٌ وَإِلَّا فَالْحُكْمُ لَا يَتَعَدَّى الْأَصْلَ إلَى الْفَرْعِ بَلْ يَثْبُتُ فِي الْفَرْعِ مِثْلَ حُكْمِ الْأَصْلِ عِنْدَ وُجُودِ مِثْلِ تِلْكَ الْعِلَّةِ فَلَا حَقِيقَةَ لِلتَّعَدِّي. وَيَتَوَلَّدُ مِنْ هَذَا النَّظَرِ مَسْأَلَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْعِلَّةَ إذَا كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً فَالْحُكْمُ فِي مَحَلِّ النَّصِّ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ أَوْ إلَى النَّصِّ؟ فَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُضَافُ إلَى النَّصِّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي الْمَنْصُوصِ وَالْعِلَّةُ مَظْنُونَةٌ فَكَيْفَ يُضَافُ مَقْطُوعٌ إلَى مَظْنُونٍ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ.

وَهُوَ نِزَاعٌ لَا تَحْقِيقَ تَحْتَهُ، فَإِنَّا لَا نَعْنِي بِالْعِلَّةِ إلَّا بَاعِثَ الشَّرْعِ عَلَى الْحُكْمِ فَإِنَّهُ لَوْ ذَكَرَ جَمِيعَ الْمُسْكِرَاتِ بِأَسْمَائِهَا فَقَالَ: لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ وَالنَّبِيذَ، وَكَذَا، وَكَذَا، وَنَصَّ عَلَى جَمِيعِ مَجَارِي الْحُكْمِ لَكَانَ اسْتِيعَابُهُ مَجَارِيَ الْحُكْمِ لَا يَمْنَعُنَا مِنْ أَنْ نَظُنَّ أَنَّ الْبَاعِثَ لَهُ عَلَى التَّحْرِيمِ الْإِسْكَارُ، فَنَقُولُ: الْحُكْمُ مُضَافٌ إلَى الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ بِالنَّصِّ وَلَكِنَّ الْإِضَافَةَ إلَيْهِ مُعَلَّلَةٌ بِالشِّدَّةِ بِمَعْنَى أَنَّ بَاعِثَ الشَّرْعِ عَلَى التَّحْرِيمِ هُوَ الشِّدَّةُ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ مَظْنُونٌ.

فَنَقُولُ: وَنَحْنُ لَا نَزِيدُ عَلَى أَنْ نَقُولَ: نَظُنُّ أَنَّ بَاعِثَ الشَّرْعِ الشِّدَّةُ، فَلَا يَسْقُطُ هَذَا الظَّنُّ بِاسْتِيعَابِ مَجَارِي الْحُكْمِ وَلَا حَجْرَ عَلَيْنَا فِي أَنْ نُصَدِّقَ فَنَقُولَ: إنَّمَا نَظُنُّ

<<  <   >  >>