للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَلَا مَالَ قَلْبُهُ إلَيْهِ وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمَا، فَمَنْ خُلِقَ خِلْقَةَ أَبِي بَكْرٍ فِي غَلَبَةِ التَّأَلُّهِ وَتَجْرِيدِ النَّظَرِ فِي الْآخِرَةِ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ لَا مَحَالَةَ مَا ظَنَّهُ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَنْقَدِحْ فِي نَفْسِهِ إلَّا ذَلِكَ، وَمَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ خِلْقَةَ عُمَرَ وَعَلَى حَالَتِهِ وَسَجِيَّتِهِ فِي الِالْتِفَاتِ إلَى السِّيَاسَةِ وَرِعَايَةِ مَصَالِحِ الْخَلْقِ وَضَبْطِهِمْ وَتَحْرِيكِ دَوَاعِيهِمْ لِلْخَيْرِ فَلَا بُدَّ أَنْ تَمِيلَ نَفْسُهُ إلَى مَا مَالَ إلَيْهِ عُمَرُ مَعَ إحَاطَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَلِيلِ صَاحِبِهِ، وَلَكِنَّ اخْتِلَافَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَحْوَالِ وَالْمُمَارَسَاتِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الظُّنُونِ، فَمَنْ مَارَسَ عِلْمَ الْكَلَامِ نَاسَبَ طَبْعَهُ أَنْوَاعٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ يَتَحَرَّكُ بِهَا ظَنُّهُ لَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ طَبْعَ مَنْ مَارَسَ الْفِقْهَ.

وَلِذَلِكَ مَنْ مَارَسَ الْوَعْظَ صَارَ مَائِلًا إلَى جِنْسِ ذَلِكَ الْكَلَامِ بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَخْلَاقِ، فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْغَضَبُ مَالَتْ نَفْسُهُ إلَى كُلِّ مَا فِيهِ شَهَامَةٌ وَانْتِقَامٌ، وَمَنْ لَانَ طَبْعُهُ وَرَقَّ قَلْبُهُ نَفَرَ عَنْ ذَلِكَ وَمَالَ إلَى مَا فِيهِ الرِّفْقُ وَالْمُسَاهَلَةُ.

فَالْأَمَارَاتُ كَحَجَرِ الْمِغْنَاطِيسِ تُحَرِّكُ طَبْعًا يُنَاسِبُهَا كَمَا يُحَرِّكُ الْمِغْنَاطِيسُ الْحَدِيدَ دُونَ النُّحَاسِ بِخِلَافِ دَلِيلِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِذَاتِهِ، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ عَلَى الشَّكْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي مَدَارِكِ الْعُقُولِ يُوجِبُ التَّصْدِيقَ ضَرُورَةً بِالنَّتِيجَةِ فَإِذًا لَا دَلِيلَ فِي الظَّنِّيَّاتِ عَلَى التَّحْقِيقِ وَمَا يُسَمَّى دَلِيلًا فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ وَبِالْإِضَافَةِ إلَى مَا مَالَتْ نَفْسُهُ إلَيْهِ فَإِذًا أَصْلُ الْخَطَأِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إقَامَةُ الْفُقَهَاءِ لِلْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ وَزْنًا حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهَا أَدِلَّةٌ فِي أَنْفُسِهَا لَا بِالْإِضَافَةِ، وَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ الْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ فِيهِ أَدِلَّةٌ قَطْعِيَّةٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يُؤَثَّمْ الْمُخْطِئُ لِغُمُوضِ الدَّلِيلِ؟ قُلْنَا: الشَّيْءُ يَنْقَسِمُ إلَى مَعْجُوزٍ عَنْهُ مُمْتَنِعٍ وَإِلَى مَقْدُورٍ عَلَيْهِ عَلَى يُسْرٍ وَإِلَى مَقْدُورٍ عَلَيْهِ عَلَى عُسْرٍ؛ فَإِنْ كَانَ دَرْكُ الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ مَعْجُوزًا عَنْهُ مُمْتَنِعًا فَالتَّكْلِيفُ بِهِ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ مَقْدُورًا عَلَى يُسْرٍ فَالتَّارِكُ لَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَأْثَمَ قَطْعًا لِأَنَّهُ تَرَكَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَقَدْ أُمِرَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَقْدُورًا عَلَى عُسْرٍ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعُسْرُ صَارَ سَبَبًا لِلرُّخْصَةِ وَحَطِّ التَّكْلِيفِ كَإِتْمَامِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ أَوْ بَقِيَ التَّكْلِيفُ مَعَ الْعُسْرِ، فَإِنْ بَقِيَ التَّكْلِيفُ مَعَ الْعُسْرِ فَتَرْكُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ إثْمٌ كَالصَّبْرِ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ مَعَ تَضَاعُفِ عَدَدِهِمْ فَإِنَّهُ شَدِيدٌ جِدًّا وَعَسِيرٌ وَلَكِنْ يَعْصِي إذَا تَرَكَهُ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ لَمْ يَزُلْ بِهَذَا الْعُسْرِ

وَكَذَلِكَ صَبْرُ الْمَرْأَةِ عَلَى الضَّرَّاتِ وَحُسْنِ التَّبَعُّلِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ جِهَادٌ شَدِيدٌ عَلَى النَّفْسِ وَلَكِنَّهَا تَأْثَمُ بِتَرْكِهِ مَعَ ضَعْفِهَا وَعَجْزِهَا، وَكَذَلِكَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالشُّبْهَةِ فِي مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ وَتَمْيِيزِهَا عَنْ السِّحْرِ فِي غَايَةِ الْغُمُوضِ وَمَنْ أَخْطَأَ فِيهِ أَثِمَ بَلْ كَفَرَ وَاسْتَحَقَّ التَّخْلِيدَ فِي النَّارِ، وَكَذَلِكَ الْحَقُّ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ مَعَ الْعُسْرِ إنْ أُمِرَ بِهِ فَالْمُخْطِئُ آثِمٌ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ بَلْ بِحَسَبِ غَلَبَةِ الظَّنِّ فَقَدْ أَدَّى مَا كُلِّفَ وَأَصَابَ مَا هُوَ حُكْمٌ فِي حَقِّهِ وَأَخْطَأَ مَا لَيْسَ حُكْمًا فِي حَقِّهِ، بَلْ هُوَ بِصَدَدِ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا فِي حَقِّهِ لَوْ خُوطِبَ بِهِ أَوْ نُصِبَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ.

فَإِذًا الْحَاصِلُ أَنَّ الْإِصَابَةَ مُحَالٌ أَوْ مُمْكِنٌ وَلَا تَكْلِيفَ بِالْمُحَالِ، وَمَنْ أُمِرَ بِمُمْكِنٍ فَتَرَكَهُ عَصَى وَأَثِمَ، وَمُحَالٌ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ، لَكِنْ إنْ خَالَفَ لَمْ يَعْصِ وَلَمْ يَأْثَمْ وَكَانَ مَعْذُورًا؛ لِأَنَّ هَذَا يُنَاقِضُ حَدَّ الْأَمْرِ وَالْإِيجَابِ إذْ حَدُّ الْإِيجَابِ مَا يَتَعَرَّضُ تَارِكُهُ لِلْعِقَابِ وَالذَّمِّ. وَهَذَا تَقْسِيمٌ قَاطِعٌ يَرْفَعُ الْخِلَافَ مَعَ كُلِّ مُنْصِفٍ وَيَرُدُّ النِّزَاعَ إلَى عِبَارَةٍ، وَهُوَ أَنَّ مَا لَيْسَ حُكْمًا فِي حَقِّهِ قَدْ أَخْطَأَهُ، وَذَلِكَ مُسَلَّمٌ وَلَكِنَّهُ نَوْعُ مَجَازٍ كَتَخْطِئَةِ الْمُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ بُلُوغِ الْخَبَرِ

<<  <   >  >>