للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقِبْلَةِ وَالْإِنَاءَيْنِ إذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُمَا أَنْ يَقْتَدِيَ بِالْآخَرِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ صَحِيحَةٌ، فَلِمَ لَا يَقْتَدِي بِمَنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ؟ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ اقْتِدَاءُ الشَّافِعِيِّ بِحَنَفِيٍّ إذَا تَرَكَ الْفَاتِحَةَ، وَصَلَاةُ الْحَنَفِيِّ أَيْضًا صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهُ بَنَاهَا عَلَى الِاجْتِهَادِ، فَلَمَّا اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الِاقْتِدَاءِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ الِاتِّفَاقَ فِي هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ الِاقْتِدَاءَ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ وَهُوَ مُنْقَدِحٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُصَلٍّ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ وَلَا يَجِبُ الِاقْتِدَاءُ إلَّا بِمَنْ هُوَ فِي صَلَاةٍ، وَصَلَاةُ الْإِمَامِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِبُطْلَانِهَا فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ الِاقْتِدَاءُ؟ وَلَوْ بَانَ كَوْنُ الْإِمَامِ جُنُبًا رُبَّمَا لَمْ يَجِبْ قَضَاءُ الصَّلَاةِ.

وَلَوْ سَلَّمْنَا فَنَقُولُ: إنَّمَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي، وَلِلْمُقْتَدِي أَنْ يَقُولَ: صَلَاةُ الْإِمَامِ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهَا عَلَى وَفْقِ اعْتِقَادِهِ فَاسِدَةٌ فِي حَقِّي؛ لِأَنَّهَا عَلَى خِلَافِ اعْتِقَادِي، فَظَهَرَ أَثَرُ صِحَّتِهَا فِي كُلِّ مَا يَخُصُّ الْمُجْتَهِدَ؛ أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِمُخَالَفَتِهِ فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْبَاطِلِ. وَالِاقْتِدَاءُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُقْتَدِي، فَصَلَاتُهُ لَا تَصْلُحُ لِقُدْوَةِ مَنْ يَعْتَقِدُ فَسَادَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ صِحَّتَهَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِمَامَ وَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ فَاتِحَةٍ فَيَحْتَمِلُ صَلَاتُهُ الصِّحَّةَ بِالِاتِّفَاقِ إذْ الشَّافِعِيُّ لَا يَقْطَعُ بِخَطَئِهِ فَلِمَ فَسَدَ اقْتِدَاؤُهُ بِمَنْ تَجُوزُ صِحَّةُ صَلَاتِهِ وَيَجُوزُ بُطْلَانُهَا وَكُلُّ إمَامٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً بِحَدَثٍ أَوْ نَجَاسَةٍ لَا يَعْرِفُهَا الْمُقْتَدِي وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِالِاحْتِمَالِ، فَلَا سَبَبَ لَهَا إلَّا أَنَّهَا بَاطِلَةٌ فِي اعْتِقَادِهِ وَبِمُوجِبِ اجْتِهَادِهِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: هِيَ بَاطِلَةٌ بِمُوجِبِ اعْتِقَادِهِ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ إمَامِهِ وَبُطْلَانُهَا فِي حَقِّهِ كَافٍ لِبُطْلَانِ اقْتِدَائِهِ.

الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُمْ: إنْ صَحَّ تَصْوِيبُ الْمُجْتَهِدِينَ فَيَنْبَغِي أَنْ نَطْوِيَ بِسَاطَ الْمُنَاظَرَاتِ فِي الْفُرُوعِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُنَاظَرَةِ دَعْوَةُ الْخَصْمِ إلَى الِانْتِقَالِ عَنْ مَذْهَبِهِ فَلَمْ يُدْعَ إلَى الِانْتِقَالِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: مَا اعْتَقَدْتُهُ فَهُوَ حَقٌّ فَلَازِمْهُ فَإِنَّهُ لَا فَضْلَ لِمَذْهَبِي عَلَى مَذْهَبِكَ، فَالْمُنَاظَرَةُ إمَّا وَاجِبَةٌ وَإِمَّا نَدْبٌ وَإِمَّا مُفِيدَةٌ، وَلَا يَبْقَى لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَجْهٌ مَعَ التَّصْوِيبِ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّا لَا نُنْكِرُ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ ضَعَفَةِ الْفُقَهَاءِ يَتَنَاظَرُونَ لِدَعْوَةِ الْخَصْمِ إلَى الِانْتِقَالِ؛ لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ، بَلْ لِاعْتِقَادِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ الْمُصِيبُونَ وَأَنَّ خَصْمَهُمْ مُخْطِئٌ عَلَى التَّعْيِينِ، أَمَّا الْمُحَصِّلُونَ فَلَا يَتَنَاظَرُونَ فِي الْفُرُوعِ لِذَلِكَ لَكِنْ يَعْتَقِدُونَ وُجُوبَ الْمُنَاظَرَةِ لِغَرَضَيْنِ وَاسْتِحْبَابَهَا لِسِتَّةِ أَغْرَاضٍ

أَمَّا الْوُجُوبُ فَفِي مَوْضِعَيْنِ:

أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ مِنْ نَصٍّ أَوْ مَا فِي مَعْنَى النَّصِّ أَوْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ فِيمَا يُتَنَازَعُ فِيهِ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ وَلَوْ عُثِرَ عَلَيْهِ لَامْتَنَعَ الظَّنُّ وَالِاجْتِهَادُ فَعَلَيْهِ الْمُبَاحَثَةُ وَالْمُنَاظَرَةُ حَتَّى يَنْكَشِفَ انْتِفَاءُ الْقَاطِعِ الَّذِي يَأْثَمُ وَيَعْصَى بِالْغَفْلَةِ عَنْهُ.

الثَّانِي: أَنْ يَتَعَارَضَ عِنْدَهُ دَلِيلَانِ وَيَعْسُرُ عَلَيْهِ التَّرْجِيحُ فَيَسْتَعِينَ بِالْمُبَاحَثَةِ عَلَى طَلَبِ التَّرْجِيحِ، فَإِنَّا وَإِنْ قُلْنَا عَلَى رَأْيٍ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ فَإِنَّمَا يَتَخَيَّرُ إذَا حَصَلَ الْيَأْسُ عَنْ طَلَبِ التَّرْجِيحِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْيَأْسُ بِكَثْرَةِ الْمُبَاحَثَةِ.

وَأَمَّا النَّدْبُ فَفِي مَوَاضِعَ:

الْأَوَّلِ: أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ أَنَّهُ مُعَانِدٌ فِيمَا يَقُولُهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لَهُ وَأَنَّهُ إنَّمَا يُخَالِفُ حَسَدًا أَوْ عِنَادًا أَوْ نُكْرًا، فَيُنَاظِرُ لِيُزِيلَ عَنْهُمْ مَعْصِيَةَ سُوءِ الظَّنِّ وَيُبَيِّنَ أَنَّهُ يَقُولُهُ عَنْ اعْتِقَادٍ وَاجْتِهَادٍ.

الثَّانِي: أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْخَطَأِ وَأَنَّهُ قَدْ خَالَفَ دَلِيلًا قَاطِعًا، فَيُعْلَمَ جَهْلُهُمْ،

<<  <   >  >>