للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الِاتِّفَاقُ مِنْهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ فَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَجَوَازِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ وَلَمْ يُخَالِفْ إلَّا الشَّوَاذُّ، فَلَوْ اتَّفَقَ أَنْ سَاعَدَهُمْ الشَّوَاذُّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ضَرُورِيًّا، فَكَذَلِكَ اتِّفَاقُ النَّاسِ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ عَنْ دَلِيلِ السَّمْعِ الدَّالِّ عَلَى قُبْحِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَبَعْضُهُ عَنْ تَقْلِيدِ مَفْهُومٍ مِنْ الْآخِذِينَ عَنْ السَّمْعِ وَبَعْضُهُ عَنْ الشُّبْهَةِ الَّتِي وَقَعَتْ لِأَهْلِ الضَّلَالِ، فَالْتِئَامُ الِاتِّفَاقِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا فَلَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً لَوْلَا مَنْعُ السَّمْعِ عَنْ تَجْوِيزِ الْخَطَأِ عَلَى كَافَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَاصَّةً إذْ لَا يَبْعُدُ اجْتِمَاعُ الْكَافَّةِ عَلَى الْخَطَأِ عَنْ تَقْلِيدٍ وَعَنْ شُبْهَةٍ، وَكَيْفَ وَفِي الْمُلْحِدَةِ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ قُبْحَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَا حُسْنَ نَقَائِضِهَا، فَكَيْفَ يُدَّعَى اتِّفَاقُ الْعُقَلَاءِ؟ احْتَجُّوا بِأَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ مَنْ اسْتَوَى عِنْدَهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ آثَرَ الصِّدْقَ وَمَالَ إلَيْهِ إنْ كَانَ عَاقِلًا وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِحُسْنِهِ، وَإِنَّ الْمَلِكَ الْعَظِيمَ الْمُسْتَوْلِي عَلَى الْأَقَالِيمِ إذَا رَأَى ضَعِيفًا مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ يَمِيلُ إلَى إنْقَاذِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْتَقِدُ أَصْلَ الدِّينِ لِيَنْتَظِرَ ثَوَابًا وَلَا يَنْتَظِرُ مِنْهُ أَيْضًا مُجَازَاةً وَشُكْرًا، وَلَا يُوَافِقُ ذَلِكَ أَيْضًا غَرَضَهُ بَلْ رُبَّمَا يَتْعَبُ بِهِ بَلْ يَحْكُمُ الْعُقَلَاءُ بِحُسْنِ الصَّبْرِ عَلَى السَّيْفِ إذَا أُكْرِه عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَوْ عَلَى إفْشَاءِ السِّرِّ وَنَقْضِ الْعَهْدِ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ غَرَضِ الْمُكْرَهِ وَعَلَى الْجُمْلَةِ اسْتِحْسَانُ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَإِفَاضَةُ النِّعَمِ مِمَّا لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ إلَّا عَنْ عِنَادٍ.

وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُنْكِرُ اشْتِهَارَ هَذِهِ الْقَضَايَا بَيْنَ الْخَلْقِ وَكَوْنَهَا مَحْمُودَةً مَشْهُورَةً، وَلَكِنَّ مُسْتَنَدَهَا إمَّا التَّدَيُّنُ بِالشَّرَائِعِ وَإِمَّا الْأَغْرَاضُ؛ وَنَحْنُ إنَّمَا نُنْكِرُ هَذَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِانْتِفَاءِ الْأَغْرَاضِ عَنْهُ، فَأَمَّا إطْلَاقُ النَّاسِ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِيمَا يَدُورُ بَيْنَهُمْ فَيَسْتَمِرُّ مِنْ الْأَغْرَاضِ وَلَكِنْ قَدْ تَدِقُّ الْأَغْرَاضُ وَتَخْفَى فَلَا يَنْتَبِهُ لَهَا إلَّا الْمُحَقِّقُونَ؛ وَنَحْنُ نُنَبِّهُ عَلَى مُثَارَاتِ الْغَلَطِ فِيهِ وَهِيَ ثَلَاثُ مُثَارَاتٍ يَغْلَطُ الْوَهْمُ فِيهَا

الْأُولَى: أَنَّ الْإِنْسَانَ يُطْلِقُ اسْمَ الْقُبْحِ عَلَى مَنْ يُخَالِفُ غَرَضَهُ وَإِنْ كَانَ يُوَافِقُ غَرَضَ غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إلَى الْغَيْرِ، فَإِنَّ كُلَّ طَبْعٍ مَشْغُوفٌ بِنَفْسِهِ وَمُسْتَحْقِرٌ لِغَيْرِهِ فَيَقْضِي بِالْقُبْحِ مُطْلَقًا.

وَرُبَّمَا يُضِيفُ الْقُبْحَ إلَى ذَاتِ الشَّيْءِ وَيَقُولُ: هُوَ بِنَفْسِهِ قَبِيحٌ، فَيَكُونُ قَدْ قَضَى بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ هُوَ مُصِيبٌ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَهُوَ أَصْلُ الِاسْتِقْبَاحِ وَمُخْطِئٌ فِي أَمْرَيْنِ

أَحَدُهُمَا إضَافَةُ الْقُبْحِ إلَى ذَاتِهِ، إذْ غَفَلَ. عَنْ كَوْنِهِ قَبِيحًا لِمُخَالَفَةِ غَرَضِهِ.

وَالثَّانِي حُكْمُهُ بِالْقُبْحِ مُطْلَقًا، وَمُنْشَؤُهُ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَى غَيْرِهِ بَلْ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَى بَعْضِ أَحْوَالِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَسْتَحْسِنُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَيْنَ مَا يَسْتَقْبِحُهُ إذَا اخْتَلَفَ الْغَرَضُ.

الْغَلْطَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْغَرَضِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ نَادِرَةٍ قَدْ لَا يَلْتَفِتُ الْوَهْمُ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ النَّادِرَةِ بَلْ لَا يَخْطِرُ بِالْبَالِ فَيَرَاهُ مُخَالِفًا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، فَيَقْضِي بِالْقُبْحِ مُطْلَقًا لِاسْتِيلَاءِ أَحْوَالِ قُبْحِهِ عَلَى قَلْبِهِ وَذَهَابِ الْحَالَةِ النَّادِرَةِ عَنْ ذِكْرِهِ، كَحُكْمِهِ عَلَى الْكَذِبِ بِأَنَّهُ قَبِيحٌ مُطْلَقًا وَغَفْلَتُهُ عَنْ الْكَذِبِ الَّذِي تُسْتَفَادُ بِهِ عِصْمَةُ دَمِ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ.

وَإِذَا قَضَى بِالْقُبْحِ مُطْلَقًا وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ مُدَّةً وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ عَلَى سَمْعِهِ وَلِسَانِهِ انْغَرَسَ فِي نَفْسِهِ اسْتِقْبَاحٌ مُنَفِّرٌ، فَلَوْ وَقَعَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ النَّادِرَةُ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ نُفْرَةً عَنْهُ لِطُولِ نُشُوِّهِ عَلَى الِاسْتِقْبَاحِ فَإِنَّهُ أُلْقِيَ إلَيْهِ مُنْذُ الصِّبَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْدِيبِ وَالْإِرْشَادِ أَنَّ الْكَذِبَ قَبِيحٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ

<<  <   >  >>