عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ بَلْ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَمَا يُنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ وَيُؤْمَرُ بِهَا مَعَ الطَّهَارَةِ، وَيُنْهَى عَنْ السُّجُودِ لِلصَّنَمِ وَيُؤْمَرُ بِالسُّجُودِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِاخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مَأْمُورٌ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْأَمْرِ، مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَ زَوَالِ الْأَمْرِ، فَهُمَا حَالَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْدَلَ لَفْظَ بَقَاءِ الْأَمْرِ بِانْتِفَاءِ النَّهْيِ أَوْ بِعَدَمِ الْمَنْعِ، وَالْأَلْفَاظُ مُتَقَارِبَةٌ وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مَأْمُورٌ بِالْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ بِشَرْطِ أَنْ يَخْتَارَ الْفِعْلَ أَوْ الْعَزْمَ، وَإِنَّمَا يُنْهَى عَنْهُ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَخْتَارُهُ. وَجَعَلُوا حُصُولَ ذَلِكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِشَرْطِ هَذَا النَّسْخِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: يَأْمُرُ بِشَرْطِ كَوْنِهِ مَصْلَحَةً، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَصْلَحَةً مَعَ دَوَامِ الْأَمْرِ، أَمَّا بَعْدَ النَّهْيِ فَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَصْلَحَةً. وَقَالَ قَوْمٌ: إنَّمَا يَأْمُرُ فِي وَقْتٍ يَكُونُ الْأَمْرُ مَصْلَحَةً ثُمَّ يَتَغَيَّرُ الْحَالُ فَيَصِيرُ النَّهْيُ مَصْلَحَةً، وَإِنَّمَا يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ إيجَابَهُ مَصْلَحَةٌ مَعَ دَوَامِ الْأَمْرِ، أَمَّا بَعْدَ النَّهْيِ فَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَصْلَحَةً وَقَالَ قَوْمٌ: إنَّمَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْحَالَ سَتَتَغَيَّرُ لِيَعْزِمَ الْمُكَلَّفُ عَلَى فِعْلِهِ إنْ بَقِيَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي الْفِعْلِ وَكُلُّ هَذَا مُتَقَارِبٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُوجَدَ وَأَنْ لَا يُوجَدَ، فَأَمَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَلَا مَعْنَى لِشَرْطِيَّتِهِ، وَالْمَأْمُورُ لَا يَقَعُ مَأْمُورًا إلَّا عِنْدَ دَوَامِ الْأَمْرِ وَعَدَمِ النَّهْيِ فَكَيْفَ يَقُولُ آمُرُكَ بِشَرْطِ أَنْ لَا أَنْهَاكَ؟ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: آمُرُكَ بِشَرْطِ أَنْ آمُرَكَ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْأَمْرُ بِالْمَأْمُورِ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ حَادِثًا أَوْ عَرَضًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ، فَهَذَا لَا يَصْلُحُ لِلشَّرْطِيَّةِ، وَلَيْسَ هَذَا كَالصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ وَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ، فَإِنَّ الِانْقِسَامَ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ.
وَمَنْ رَغِبَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَأَقْرَبُ الْعِبَارَاتِ أَنْ يَقُولَ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ قَبْلَ وَقْتِهِ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى حُكْمُهُ عَلَى الْمَأْمُورِ إلَى وَقْتِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُزَالَ حُكْمُهُ قَبْلَ وَقْتِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ بَقَاءُ حُكْمِهِ شَرْطًا فِي الْأَمْرِ فَيُقَالُ: افْعَلْ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ إنْ لَمْ يَزُلْ حُكْمُ أَمْرِي عَنْكَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، فَإِذَا نُهِيَ عَنْهُ كَانَ قَدْ زَالَ حُكْمُ الْأَمْرِ فَلَيْسَ مَنْهِيًّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ.
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّا لَا نَلْتَزِمُ إظْهَارَ اخْتِلَافِ الْوَجْهِ، لَكِنْ نَقُولُ: مَا أَمَرْنَاكَ أَنْ تَفْعَلَهُ عَلَى وَجْهٍ فَقَدْ نَهَيْنَاكَ عَنْ فِعْلِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ. وَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ، إذْ لَيْسَ الْمَأْمُورُ حَسَنًا فِي عَيْنِهِ أَوْ لِوَصْفٍ هُوَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِهِ حَتَّى يَتَنَاقَضَ ذَلِكَ، وَلَا الْمَأْمُورُ مُرَادًا حَتَّى يَتَنَاقَضَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مَكْرُوهًا، بَلْ جَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَدْ أَبْطَلْنَاهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ سَيَنْهَى عَنْهُ فَمَا مَعْنَى أَمْرِهِ بِالشَّيْءِ الَّذِي يَعْلَمُ انْتِفَاءَهُ قَطْعًا لِعِلْمِهِ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ؟ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ ذَلِكَ إنْ كَانَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ مَعْلُومَةً لِلْمَأْمُورِ أَمَّا إذَا كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَ الْمَأْمُورِ مَعْلُومًا عِنْدَ الْآمِرِ أَمْكَنَ الْأَمْرُ لِامْتِحَانِهِ بِالْعَزْمِ وَالِاشْتِغَالِ بِالِاسْتِعْدَادِ الْمَانِعِ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ اللَّهْوِ وَالْفَسَادِ حَتَّى يَتَعَرَّضَ بِالْعَزْمِ لِلثَّوَابِ وَبِتَرْكِهِ لِلْعِقَابِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ فِيهِ لُطْفٌ وَاسْتِصْلَاحٌ كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي كِتَابِ الْأَوَامِرِ.
وَالْعَجَبُ مِنْ إنْكَارِ الْمُعْتَزِلَةِ ثُبُوتُ الْأَمْرِ بِالشَّرْطِ مَعَ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا الْوَعْدَ مِنْ الْعَالِمِ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ بِالشَّرْطِ، وَقَالُوا وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الطَّاعَةِ ثَوَابًا بِشَرْطِ عَدَمِ مَا يُحْبِطُهَا مِنْ الْفِسْقِ وَالرِّدَّةِ وَعَلَى الْمَعْصِيَةِ عِقَابًا بِشَرْطِ خُلُوِّهَا عَمَّا يُكَفِّرُهَا مِنْ التَّوْبَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِعَاقِبَةِ أَمْرِ مَنْ يَمُوتُ عَلَى الرِّدَّةِ وَالتَّوْبَةِ، ثُمَّ شَرَطَ ذَلِكَ فِي وَعْدِهِ فَلَمْ يَسْتَحِلْ أَنْ يَشْرُطَ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.
وَتَكُونُ شَرْطِيَّتُهُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْعَبْدِ الْجَاهِلِ بِعَاقِبَةِ الْأَمْرِ فَيَقُولُ: أُثِيبُكَ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute