من ذَلِك إِلَّا من شَاءَ الله عز وَجل أَن يُؤمن فصح يَقِينا أَنه لَا يُؤمن إِلَّا من شَاءَ الله إيمَانه وَلَا يكفر إِلَّا من شَاءَ الله كفره فَقَالَ تَعَالَى حاكياً عَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ {وَإِلَّا تصرف عني كيدهن أصب إلَيْهِنَّ وأكن من الْجَاهِلين فَاسْتَجَاب لَهُ ربه فصرف عَنهُ كيدهن} فبالضرورة نعلم أَن من صبا وَجَهل فَإِن الله تَعَالَى لم يصرف عَنهُ الكيد الَّذِي صرفه برحمته عَمَّن لم يصب وَلم يجهل وَإِذ صرفه تَعَالَى عَن بعض وَلم يصرفهُ عَن بعض فقد أَرَادَ تَعَالَى إضلال من حبا وَجَهل وَقَالَ تَعَالَى {وَجَعَلنَا على قُلُوبهم أكنة أَن يفقهوه وَفِي آذانهم وقرا} فليت شعري إِذْ قَالَ تَعَالَى أَنه جعل قُلُوب الْكَافرين فِي أكنة ان يفقهوا الْقُرْآن وَجعل الوقر فِي آذانهم أتراه أَرَادَ أَن يفقهوه أَو أَرَادَ أَن لَا يفقهوه وَكَيف يسوغ فِي عقل أحد أَن يخبر تَعَالَى أَنه فعل عز وَجل شَيْئا لم يرد أَن يَفْعَله وَلَا أَرَادَ كَونه وَلَا شَاءَ إيجاده وَهَذَا تَخْلِيط لَا يتشكل فِي عقل كل ذِي مسكة من عقل فصح يَقِينا أَن الله تَعَالَى أَرَادَ كَون الوقر فِي آذانهم وَكَون الأكنة على قُلُوبهم وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله لجعلكم أمة وَاحِدَة وَلَكِن يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} فنص تَعَالَى على أَنه لم يرد أَن يجعلنا أمة وَاحِدَة وَلَكِن شَاءَ أَن يضل قوما وَيهْدِي قوما فصح يَقِينا أَنه تَعَالَى شَاءَ إضلال من ضل وَقَالَ تَعَالَى مثنياً على قوم ومصدقاً لَهُم فِي قَوْلهم {قد افترينا على الله كذبا إِن عدنا فِي ملتكم بعد إِذْ نجانا الله مِنْهَا وَمَا يكون لنا أَن نعود فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاء الله رَبنَا} فَقَالَ النَّبِيُّونَ عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام واتباعهم قَول الْحق الَّذِي شهد الله عز وَجل بتصديقه أَنهم إِنَّمَا خلصوا من الْكفْر بِأَن الله تَعَالَى نجاهم مِنْهُ وَلم ينج الْكَافرين مِنْهُ وَأَن الله تَعَالَى إِن شَاءَ ان يعودوا فِي الْكفْر عَادوا فِيهِ فصح يَقِينا أَنه تَعَالَى شَاءَ ذَلِك مِمَّن عَاد فِي الْكفْر وَقد قَالَت الْمُعْتَزلَة فِي هَذِه الْآيَة معنى هَذَا إِلَّا ان يَأْمُرنَا الله بتعظيم الْأَصْنَام كَمَا أمرنَا بتعظيم الْحجر الْأسود والكعبة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا فِي غَايَة الْفساد لِأَن الله تَعَالَى لَو أمرنَا بذلك لم يكن عوداً فِي مِلَّة الْكفْر بل كَانَ يكون ثَابتا على الْإِيمَان وتزايداً فِيهِ وَقَالَ تَعَالَى {فِي قُلُوبهم مرض فَزَادَهُم الله مَرضا} فليت شعري إِذْ زادهم الله مَرضا أتراه لم يَشَاء وَلَا أَرَادَ مَا فعل من زِيَادَة الْمَرَض فِي قُلُوبهم وَهُوَ الشَّك وَالْكفْر وَكَيف يفعل الله مَالا يُرِيد أَن يفعل وَهل هَذَا إِلَّا إلحاد مُجَرّد مِمَّن قَالَه وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله مَا اقتتل الَّذين من بعدهمْ من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات وَلَكِن اخْتلفُوا فَمنهمْ من آمن وَمِنْهُم من كفر وَلَو شَاءَ الله مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِن الله يفعل مَا يُرِيد} فنص تَعَالَى على أَنه لَو شَاءَ لم يقتتلوا فَوَجَبَ ضَرُورَة أَنه شَاءَ وَأَرَادَ أَن يقتتلوا وَفِي اقتتال المقتتلين ضلال بِلَا شكّ فقد شَاءَ الله تَعَالَى كَون الضلال ووجوده بِنَصّ كَلَامه تَعَالَى وَقَالَ عز وَجل {وَمن يرد الله فتنته فَلَنْ تملك لَهُ من الله شَيْئا} فنص تَعَالَى على انه أَرَادَ فتْنَة المفتتنين وهم الْكفَّار وكفرهم الَّذين لم يملك لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الله شَيْئا فَهَذَا نَص على أَن الله تَعَالَى أَرَادَ كَون الْكفْر من الْكفَّار وَقَالَ تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين لم يرد الله أَن يطهر قُلُوبهم لَهُم فِي الدُّنْيَا خزي وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا غَايَة الْبَيَان فِي أَنه تَعَالَى لم يرد أَن يطهر قُلُوبهم وبالضرورة نَدْرِي أَن من لم يرد الله أَن يطهر قلبه فقد أَرَادَ فَسَاد دينه الَّذِي هُوَ ضد طَهَارَة الْقلب وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله لجمعهم على الْهدى} وَهَذَا غَايَة الْبَيَان فِي أَن الله تَعَالَى لم يرد هدى الْجَمِيع وَإِذا لم يرد هدَاهُم فقد