الْكَلَام فِي الْقَضَاء وَالْقدر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب بعض النَّاس لِكَثْرَة اسْتِعْمَال الْمُسلمين هَاتين اللفظتين إِلَى أَن ظنُّوا أَن فيهمَا معنى الْإِكْرَاه والإجبار وَلَيْسَ كَمَا ظنُّوا وَإِنَّمَا معنى الْقَضَاء فِي لُغَة الْعَرَب الَّتِي بهَا خاطبنا الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبهَا نتخاطب ونتفاهم مرادنا أَنه الحكم فَقَط وَلذَلِك يَقُولُونَ القَاضِي بِمَعْنى الْحَاكِم وَقضى الله عز وَجل بِكَذَا أَي حكم بِهِ وَيكون أَيْضا بِمَعْنى أَمر قَالَ تَعَالَى {وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه} إِنَّمَا مَعْنَاهُ بِلَا خلاف أَنه تَعَالَى أَمر أَن لَا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه وَيكون أَيْضا بِمَعْنى أخبر قَالَ الله تَعَالَى {وقضينا إِلَيْهِ ذَلِك الْأَمر إِن دابر هَؤُلَاءِ مَقْطُوع مصبحين} بِمَعْنى أخبرناه أَن دابرهم مَقْطُوع بالصباح وَقَالَ تَعَالَى {وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب لتفسدن فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ ولتعلن علوا كَبِيرا} أَي أخبرناهم بذلك وَيكون أَيْضا بِمَعْنى أَرَادَ وَهُوَ قريب من معنى حكم قَالَ الله تَعَالَى {إِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون} وَمعنى ذَلِك حكم بِكَوْنِهِ فكونه وَمعنى الْقدر فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة التَّرْتِيب وَالْحَد الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ الشَّيْء تَقول قدرت الْبناء تَقْديرا إِذا رتبته وحددته قَالَ تَعَالَى {وَقدر فِيهَا أقواتها} بِمَعْنى رتب أقواتها وحددها وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا كل شَيْء خلقناه بِقدر} يُرِيد تَعَالَى برتية وحد فَمَعْنَى قضى وَقدر حكم ورتب وَمعنى الْقَضَاء وَالْقدر حكم الله تَعَالَى فِي شَيْء بِحَمْدِهِ أَو ذمه وبكونه وترتيبه على صفة كَذَا وَإِلَى وَقت كَذَا فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي الْبَدَل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَالَ بعض الْقَائِلين بالاستطاعة مَعَ الْفِعْل إِذا سُئِلَ هَل يَسْتَطِيع الْكَافِر مَا أَمر بِهِ من الْإِيمَان أم لَا يستطيعه فَأجَاب أَن الْكَافِر مستطيع للْإيمَان على الْبَدَل بِمَعْنى أَن لَا يتمادى فِي الْكفْر لَكِن يقطعهُ ويبدل مِنْهُ الْإِيمَان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالَّذِي يجب أَن يُجيب بِهِ هُوَ الْجَواب الَّذِي بَينا صِحَّته بحول الله تَعَالَى وقوته فِي كلامنا فِي الِاسْتِطَاعَة وَهُوَ ان تَقول هُوَ مستطيع فِي ظَاهر الْأَمر بسلامة جوارحه وارتفاع موانعه غير مستطيع للْجمع بَين الْإِيمَان وَالْكفْر مَا دَامَ كَافِرًا وَمَا دَامَ لَا يؤتيه الله جلّ وَعز العون فَإِذا آتَاهُ إِيَّاه تمت الإستطاعة وَفعل وَلَا بُد فَإِن قيل فَهُوَ مُكَلّف مَأْمُور قُلْنَا نعم فَإِن قيل أهوَ عَاجز عَمَّا هُوَ مَأْمُور بِهِ ومكلف أَن يَفْعَله قُلْنَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق هُوَ غير عَاجز بِظَاهِر بنيته لِسَلَامَةِ جوارحه وارتفاع الْمَوَانِع وَهُوَ عَاجز عَن الْجمع بَين الْفِعْل وضده مَا لم ينزل الله تَعَالَى لَهُ العون فَيتم ارْتِفَاع الْعَجز عَنهُ وَيُوجد الْفِعْل وَلَا بُد وَتقول أَن الْعَجز فِي اللُّغَة إِنَّمَا يَقع على الْمَمْنُوع بِآفَة على الْجَوَارِح أَو بمانع ظَاهر إِلَى الْحَواس والمأمور بِالْفِعْلِ لَيْسَ فِي ظَاهر أمره عَاجِزا إِذْ لَا آفَة فِي جوارحه وَلَا مَانع لَهُ ظَاهرا وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة عَاجز عَن الْجمع بَين الْفِعْل وضده وَبَين الْفِعْل وَتَركه وَعَن فعل مَا لم يؤته الله عوناً عَلَيْهِ وَعَن تَكْذِيب علم الله تَعَالَى الَّذِي لم يزل بِأَنَّهُ لم يفعل إِلَّا مَا سبق علمه تَعَالَى فِيهِ هَذِه الْحَقِيقَة الْجَواب فِي هَذَا الْبَاب وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِن قيل فَهُوَ ختار لما يفعل قُلْنَا نعم اخْتِيَارا صَحِيحا لَا مجَازًا لِأَنَّهُ مُرِيد لكَونه مِنْهُ محب لَهُ مُؤثر على تَركه وَهَذَا معنى لَفْظَة الِاخْتِيَار على الْحَقِيقَة وَلَيْسَ مُضْطَرّا وَلَا مجبراً وَلَا مكْرها لِأَن هَذِه أَلْفَاظ فِي اللُّغَة لَا تقع إِلَّا على الكاره لما يكون مِنْهُ فِي هَذِه الْحَال وَقد يكون الْمَرْء مُضْطَرّا مُخْتَارًا مكْرها فِي حَالَة وَاحِدَة كإنسان فِي رجله أَكلَة لَا دَوَاء لَهُ إِلَّا بقطعها
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute