أَيْضا من قبُول اللُّغَة وَمَا أوجبته الْبَرَاهِين الضرورية مِمَّا شهِدت بِهِ الْحَواس والعقول من الله تَعَالَى لَو لم يرد كَون مَا هُوَ مَوْجُود كَائِن لمنع مِنْهُ وَقد قَالَ تَعَالَى {الَّذين كذبُوا شعيباً كَانُوا هم الخاسرين} فَشهد الله تَعَالَى بتكذيبهم واستعاضته من ذَلِك بأصول المنانية أَن الْحَكِيم لَا يُرِيد كَون الظُّلم وَلَا يخلقه فلبئس مَا شروا بِهِ أنفسهم لَو كَانُوا يعلمُونَ وَلَقَد لَجأ بَعضهم إِلَى أَن قَالَ إِن لله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَات معنى وَمُرَاد لَا نعلمهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تجاهل ظَاهر وراجع لنا عَلَيْهِم سواهُ بِسَوَاء فِي خلق الله تَعَالَى أَفعَال عباده ثمَّ يعذبهم عَلَيْهَا وَلَا فرق فَكيف وَهَذَا كُله لَا معنى لَهُ بل الْآيَات كلهَا حق على ظَاهرهَا لَا يحل صرفهَا عَنهُ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ {أَفلا يتدبرون الْقُرْآن أم على قُلُوب أقفالها} وَقَالَ تَعَالَى {قُرْآنًا عَرَبيا} وَقَالَ تَعَالَى {تبياناً لكل شَيْء} وَقَالَ تَعَالَى {أَو لم يَكفهمْ أَنا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب يُتْلَى عَلَيْهِم} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه ليبين لَهُم} فَأخْبر تَعَالَى أَن الْقُرْآن تبيان لكل شَيْء فَقَالَت الْمُعْتَزلَة أَنه لَا يفهمهُ أحد وَأَنه لَيْسَ بَيَانا نَعُوذ بِاللَّه من مُخَالفَة الله عز وَجل وَمُخَالفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا فرق بَين مَا تلونا من الْآيَات فِي أَن الله تَعَالَى شَاءَ كَون الْكفْر والضلال وَبَين قَوْله تَعَالَى {قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك تؤتي الْملك من تشَاء وتنزع الْملك مِمَّن تشَاء وتعز من تشَاء وتذل من تشَاء بِيَدِك الْخَيْر} وَقَوله تَعَالَى {إِن الله يفعل مَا يَشَاء} وَقَالَ تَعَالَى {يجتبي من رسله من يَشَاء} وَقَوله {يرْزق من يَشَاء} وَقَوله تَعَالَى {يخْتَص برحمته من يَشَاء} وَقَوله تَعَالَى {فعال لما يُرِيد} فَهَذَا الْعُمُوم جَامع لمعاني هَذِه الْآيَات وَنَصّ الْقُرْآن وَإِجْمَاع لأمة على أَن الله عز وَجل حكم بِأَن من حلف فَقَالَ إِن شَاءَ الله أَو إِلَّا أَن يَشَاء الله على أَي شَيْء حلف فَإِنَّهُ إِن فعل مَا حلف عَلَيْهِ أَن لَا يَفْعَله فَلَا حنث عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَة تلْزمهُ لِأَن الله تَعَالَى لَو شَاءَ لَا نفذه وَقَالَ عز وَجل {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا أَن يَشَاء الله}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن اعْترضُوا بقول الله عز وَجل وَقَالُوا {لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم مَا لَهُم بذلك من علم إِن هم إِلَّا يخرصون} فَلَا حجَّة لَهُم فِي هَذِه الْآيَة لِأَن الله عز وَجل لَا يتناقض كَلَامه بل يصدق بعضه بَعْضًا وَقد أخبر تَعَالَى أَنه لَو شَاءَ أَن يُؤمنُوا لآمنوا وَأَنه لَو لم يَشَاء أَن يشركوا مَا أشركوا وَأَنه شَاءَ إضلالهم وَأَنه لَا يُرِيد أَن يطهر قُلُوبهم فَمن الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يكذب الله عز وَجل قَوْله الَّذِي أخبر بِهِ وَصدقه فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَإِن فِي الْآيَة الَّتِي ذكرُوا بَيَان نقض اعتراضهم بهَا بأوضح برهَان وَهُوَ أَنه لم يقل تَعَالَى أَنهم كذبُوا فِي قَوْلهم {لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم} فَكَانَ يكون لَهُم حِينَئِذٍ فِي الْآيَة مُتَعَلق وَإِنَّمَا أخبر تَعَالَى أَنهم قَالُوا ذَلِك بِغَيْر علم عِنْدهم لَكِن تخرصاً لَيْسَ فِي هَذِه الْآيَة معنى غير هَذَا أصلا وَهَذَا حق وَهُوَ قَوْلنَا أَن الله تَعَالَى لم يُنكر قطّ فِيهَا وَلَا فِي غَيرهَا معنى قَوْلهم لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم بل صدقه فِي الْآيَات الْأُخَر وَإِنَّمَا أنكر عز وَجل أَن قَالُوا ذَلِك بِغَيْر علم لَكِن بالتخرص وَقد أكذب الله عز وَجل من قَالَ الْحق الَّذِي لَا حق أَحَق مِنْهُ إِذْ قَالَه غير مُعْتَقد لَهُ قَالَ عز وَجل {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد أَنَّك لرَسُول الله وَالله يعلم أَنَّك لرَسُوله وَالله يشْهد أَن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَلَمَّا قَالُوا أصدق الْكَلَام وَهُوَ الشَّهَادَة لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَنَّهُ رَسُول غير معتقدين لذَلِك سماهم الله تَعَالَى كاذبين وَهَكَذَا فعل عز وَجل فِي قَوْلهم {لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم مَا لَهُم بذلك من علم}