بقوله تَعَالَى {كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم} بِالذَّالِ الْمُشَدّدَة بِلَا خلاف من الْقُرَّاء ودعواهم أَن الله تَعَالَى حرم مَا ادعوا تَحْرِيمه وهم كاذبون بقوله تَعَالَى {قل هَلُمَّ شهداءكم الَّذين يشْهدُونَ أَن الله حرم هَذَا} فوضح بِكُل مَا ذكرنَا بطلَان قَول الْمُعْتَزلَة الْجُهَّال وَبِأَن صِحَة قَوْلنَا أَن الله تَعَالَى شَاءَ كَون كل مَا فِي الْعَالم من إِيمَان وشرك وَهدى وضلال وَإِن الله تَعَالَى أَرَادَ كَون ذَلِك كُله وَكَيف يُمكن أَن يُنكر تَعَالَى قَوْلهم لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَقد أخبرنَا عز وَجل بِهَذَا نصا فِي قَوْله فِي السُّورَة نَفسهَا {اتبع مَا أُوحِي إِلَيْك من رَبك لَا إِلَه إِلَّا هُوَ واعرض عَن الْمُشْركين وَلَو شَاءَ الله مَا أشركوا} فلاح يَقِينا صدق مَا قُلْنَا من انه تَعَالَى لم يكذبهم فِي قَوْلهم لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من دونه من شَيْء وَهَذَا مثل مَا ذكره الله تَعَالَى من قَوْلهم {أنطعم من لَو يَشَاء الله أطْعمهُ} فَلم يُورد الله عز وَجل قَوْلهم هَذَا تَكْذِيبًا بل صدقُوا فِي ذَلِك بِلَا شكّ وَلَو شَاءَ الله لأطعم الْفُقَرَاء والمجاويع وَمَا أرى الْمُعْتَزلَة تنكر هَذَا وَإِنَّمَا أورد الله تَعَالَى قَوْلهم هَذَا لاحتجاجهم بِهِ فِي الِامْتِنَاع من الصَّدَقَة وإطعام الجائع وَبِهَذَا نَفسه احتجت الْمُعْتَزلَة على رَبهَا إِذْ قَالَت يكلفنا مَالا يقدرنا عَلَيْهِ ثمَّ يعذبنا بعد ذَلِك على مَا أَرَادَ كَونه منا فسلكوا مَسْلَك الْقَائِلين لم كلفنا الله عز وَجل إطْعَام هَذَا الجائع وَلَو أَرَادَ إطعامه لأطعمه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد تَبًّا لمن عَارض أَمر ربه وَاحْتج عَلَيْهِ بل لله الْحجَّة الْبَالِغَة وَلَو شَاءَ لأطعم من ألزمنا إطعامه وَلَو شَاءَ لهدى الْكَافرين فآمنوا وَلكنه تَعَالَى لم يرد ذَلِك بل أَرَادَ أَن يعذب من لَا يطعم الْمِسْكِين وَمن أضلّهُ من الْكَافرين لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَقَالَت الْمُعْتَزلَة معنى قَوْله تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله لجمعهم على الْهدى} {وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض} وَسَائِر الْآيَات الَّتِي تلوتهم إِنَّمَا هُوَ لَو شَاءَ عز وَجل لاضطرهم إِلَى الْإِيمَان فآمنوا مضطرين فَكَانُوا لَا يسْتَحقُّونَ الْجَزَاء بِالْجنَّةِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تَأْوِيل جمعُوا فِيهِ بلايا جمة أَولهَا أَنه قَول بِلَا برهَان وَدَعوى بِلَا دَلِيل وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ سَاقِط وَيُقَال لَهُم مَا صفة الْإِيمَان الضَّرُورِيّ الَّذِي لَا يسْتَحق عَلَيْهِ الثَّوَاب عنْدكُمْ وَمَا صفة الْإِيمَان غير الضَّرُورِيّ الَّذِي يسْتَحق بِهِ الثَّوَاب عنْدكُمْ فَإِنَّهُم لَا يقدرُونَ على فرق أصلا إِلَّا أَن يَقُولُوا هُوَ مثل مَا قَالَ الله عز وَجل إِذْ يَقُول تَعَالَى {يَوْم يَأْتِي بعض آيَات رَبك لَا ينفع نفسا إيمَانهَا لم تكن آمَنت من قبل أَو كسبت فِي إيمَانهَا خيرا} وَمثل قَوْله تَعَالَى {وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْفَتْح إِن كُنْتُم صَادِقين قل يَوْم الْفَتْح لَا ينفع الَّذين كفرُوا إِيمَانهم وَلَا هم ينظرُونَ} وَمثل حَالَة المحتضر عِنْد المعاينة الَّتِي لَا يقبل فِيهَا إيمَانه وكما قيل لفرعون {الْآن وَقد عصيت قبل}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَيُقَال لَهُم كل هَذِه الْآيَات حق وَقد شاهدت الْمَلَائِكَة تِلْكَ الْآيَات وَتلك الْأَحْوَال وَلم يبطل بذلك قبُول إِيمَانهم فَهَلا على أصولكم صَار إِيمَانهم إِيمَان اضطرار لَا يسْتَحقُّونَ عَلَيْهِ جَزَاء فِي الْجنَّة أم صَار جزاؤهم عَلَيْهِ أفضل من جَزَاء كل مُؤمن دونهم وَهَذَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ أصلا ثمَّ نقُول لَهُم أخبرونا عَن إِيمَان الْمُؤمنِينَ إِذْ صَحَّ عِنْدهم صدق النَّبِي بمشاهدة المعجزات من شقّ الْقَمَر وإطعام النَّفر الْكثير من الطَّعَام الْيَسِير ونبعان المَاء الغزير من بَين الْأَصَابِع وشق الْبَحْر وإحياء الْمَوْتَى وأوضح كل ذَلِك مِمَّا يصير فِيهِ من بلغه كمن شَاهده وَلَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute