إستيراق الشَّيَاطِين للسمع من السَّمَاء فيرمون بِالشُّهُبِ الثاقب وَفِيه يَقُول الله عز وَجل {شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ يوحي بَعضهم إِلَى بعض زخرف القَوْل غرُورًا} وَقد انْقَطَعت الكهانة بمجيء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا من بَاب النُّجُوم الَّتِي هِيَ تجارب نتعلم وَلَا من بَاب الرُّؤْيَا الَّتِي لَا يدْرِي أصدقت أم كذبت بل الْوَحْي الَّذِي هُوَ النُّبُوَّة قصد من الله تَعَالَى إِلَى إِعْلَام من يوحي إِلَيْهِ بِمَا يُعلمهُ بِهِ وَيكون عِنْد الْوَحْي بِهِ إِلَيْهِ حَقِيقَة خَارِجَة عَن الْوُجُوه الْمَذْكُورَة يحدث الله عز وَجل لمن أوحى بِهِ إِلَيْهِ علما ضَرُورِيًّا بِصِحَّة مَا أُوحِي بِهِ كعلمه بِمَا أدْرك بحواسه وبديهة عقله سَوَاء لَا مجَال للشَّكّ فِي شَيْء مِنْهُ أما بمجيء الْملك بِهِ إِلَيْهِ وَإِمَّا بخطاب يُخَاطب بِهِ فِي نَفسه وَهُوَ تَعْلِيم من الله تَعَالَى لمن يُعلمهُ دون وساطة معلم فَإِن أَنْكَرُوا أَن يكون هَذَا هُوَ معنى النُّبُوَّة فليعرفوا مَا مَعْنَاهَا فَإِنَّهُم لَا يأْتونَ بِشَيْء أصلا فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فقد جَاءَ الْقُرْآن بِأَن الله عز وَجل أرسل الْمَلَائِكَة إِلَى نسَاء فأخبروهن بِوَحْي حق من الله تَعَالَى فبشروا أم إِسْحَاق بِإسْحَاق عَن الله تَعَالَى قَالَ عز وَجل {وَامْرَأَته قَائِمَة فَضَحكت فبشرناها بِإسْحَاق وَمن وَرَاء إِسْحَاق يَعْقُوب قَالَت يَا ويلتى أألد وَأَنا عَجُوز وَهَذَا بعلي شَيخا إِن هَذَا لشَيْء عَجِيب قَالُوا أَتَعْجَبِينَ من أَمر الله رَحْمَة الله وَبَرَكَاته عَلَيْكُم أهل الْبَيْت} فَهَذَا خطاب الْمَلَائِكَة لأم إِسْحَاق عَن الله عز وَجل بالبشارة لَهَا بِإسْحَاق ثمَّ يَعْقُوب ثمَّ بقَوْلهمْ لَهَا أَتَعْجَبِينَ من أَمر الله وَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون هَذَا الْخطاب من ملك لغير نَبِي بِوَجْه من الْوُجُوه ووجدناه تَعَالَى قد أرسل جِبْرِيل إِلَى مَرْيَم أم عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام يخاطبها وَقَالَ لَهَا {إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك غُلَاما زكيا} فَهَذِهِ نبوة صَحِيحَة بِوَحْي صَحِيح ورسالة من الله تَعَالَى إِلَيْهَا وَكَانَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام يجد عِنْدهَا من الله تَعَالَى رزقا واردا تمنى من أَجله ولدا فَاضلا وَوجدنَا أم مُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام قد أوحى الله إِلَيْهَا بإلقاء وَلَدهَا فِي اليم وأعلمها أَنه سيرده إِلَيْهَا ويجعله نَبيا مُرْسلا فَهَذِهِ نبوة لَا شكّ فِيهَا وبضرورة الْعقل يدْرِي كل ذِي تَمْيِيز صَحِيح أَنَّهَا لَو لم تكن واثقة بنبوة الله عز وَجل لَهَا لكَانَتْ بإلقائها وَلَدهَا فِي اليم برؤيا ترَاهَا أَو بِمَا يَقع فِي نَفسهَا أَو قَامَ فِي هاجستها فِي غَايَة الْجُنُون والمرار الهائج وَلَو فعل ذَلِك أَحَدنَا لَكَانَ فِي غَايَة الْفسق أَو فِي غَايَة الْجُنُون مُسْتَحقّا لمعاناة دماغه فِي البيمارستان لَا يشك فِي هَذَا أحد فصح يَقِينا أَن الْوَحْي الَّذِي ورد لَهَا فِي إِلْقَاء وَلَدهَا فِي اليم كالوحي الْوَارِد على إِبْرَاهِيم فِي الرُّؤْيَا فِي ذبح وَلَده فَإِن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَو لم يكن نَبيا واثقا بِصِحَّة الْوَحْي والنبوة الْوَارِد عَلَيْهِ من ذبح وَلَده لكنه ذبح وَلَده لرؤيا رَآهَا أَو ظن وَقع فِي نَفسه لَكَانَ بِلَا شكّ فَاعل ذَلِك من غير الْأَنْبِيَاء فَاسِقًا فِي نِهَايَة الْفسق أَو مَجْنُونا فِي غَايَة الْجُنُون هَذَا مَا لَا يشك فِيهِ أحد من النَّاس فَصحت نبوتهن بِيَقِين وَوجدنَا الله تَعَالَى قد قَالَ وَقد ذكر من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي سُورَة كهيعص ذكر مَرْيَم فِي جُمْلَتهمْ ثمَّ قَالَ عز وَجل {أُولَئِكَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين من ذُرِّيَّة آدم وَمِمَّنْ حملنَا مَعَ نوح} وَهَذَا هُوَ عُمُوم لَهَا مَعَهم لَا يجوز تخصيصها من جُمْلَتهمْ وَلَيْسَ قَوْله عز وَجل وَأمه صديقَة بمانع من أَن تكون نبية فقد قَالَ تَعَالَى يُوسُف أَيهَا الصّديق وَهُوَ مَعَ ذَلِك نَبِي رَسُول وَهَذَا ظَاهر وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَيلْحق بِهن عَلَيْهِنَّ السَّلَام فِي ذَلِك امْرَأَة فِرْعَوْن بقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كمل من الرِّجَال كَثِيرُونَ وَلم يكمل من النِّسَاء إِلَّا مَرْيَم بنت عمرَان وآسية بنت مُزَاحم امْرَأَة فِرْعَوْن أَو كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام والكمال فِي الرِّجَال لَا يكون إِلَّا لبَعض الْمُرْسلين عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَن من دونهم نَاقص عَنْهُم بِلَا شكّ وَكَانَ تَخْصِيصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرْيَم وَامْرَأَة فِرْعَوْن تَفْضِيلًا لَهما على سَائِر من أُوتيت النُّبُوَّة من النِّسَاء بِلَا شكّ إِذْ من نقص عَن منزلَة آخر وَلَو بدقيقة فَلم يكمل فصح بِهَذَا الْخَبَر أَن هَاتين الْمَرْأَتَيْنِ كملتا كمالا لم يلحقهما فِيهِ امْرَأَة غَيرهَا أصلا وَإِن كن بنصوص الْقُرْآن نبيات وَقد قَالَ تَعَالَى {تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض} فالكامل فِي نَوعه هُوَ الَّذِي لَا يلْحقهُ أحد من أهل نَوعه فهم من الرِّجَال الرُّسُل الَّذين فَضلهمْ الله تَعَالَى على سَائِر الرُّسُل وَمِنْهُم نَبينَا وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute