فإذا استمر نسقاً مطّرداً أو سَنناً منتظماً أوهى سلك ما نظم، وحلّ عقد ما ألّف، وعاد في هدم بنائه، وثلْم تأسيسه وأجزائه، فأرسل مرْعيّهُ هملاً، وحلّ معقوده بدداً، فيكون ساقياً مظمئاً ومورداً مُخْمِساً لكثرة شواغله، وزحمة أعدائه التي تفرّق بالَه، وتوزع ذهنه، وتقسم لبّه، من تثمير مال، أو در فتح معيشة، أو دفع مضرة، أو حيازة منفعة، أو كدح على عيال، أو مباراة حاسد، أو مكاثرة عدو، أو منافسة في مكرمة أو منقبة، أو اغتنام محمدة أو مثوبة، أو فرار من سبّ ومذمّة، أو جارٍ يحميه، أو طارق يضيفه، أو أسير يستنقذه، أو شاعر ينتجعه. فإذا كانت الحال كما وصفنا، سليمةً لا تعاب، وخالصة لا تشاب، صار المعجز باهراً ظاهراً، ومالكاً للقلب قاهراً، وقادحاً في العقل العقيم، والطينة اليابسة، والفهم العاقر والحد الكليل، يزيد في اليقين روح الاستبانة، وبرد السكون والاستنامة، وثلج الصدور، وعزَّ المعرفة، وطمأنينة العلم، واستطالة الفهم، وعاد أوضح برهاناً، وأصدع بياناً من أن يترك للمُتعلل تعلّةً، وللمرتاب عُقلةً، وللشاك استرابةً، وهو صلى الله عليه وسلم يتحداهم به مثنىً ووحداناً، ويقرّعهم فُرادى وأشتاتاً، لا يألو جهداً في تسفيه أحلامهم، وتبكيت أصنامهم، يدعوهم إلى أن يأتوا بسورةٍ من مثله، وهم يسمعونه عذب المسموع، سهل الموضوع، باللفظ الجزل، ومُتشابه الرصف، ومُتلاحم أجزاء الأول والآخر واتفاق قرائن الأوسط الطرفين، ينظم أبهة الفخامة إلى رقة الحلاوة، ويجمع رصانة الجزالة، ومهابة الجلالة إلى بهجة الرشاقة، ومحبة القبول ومبادئ خارجةً عن معهود مبادئ القريض المُقَصّد والمسجوع المُرجَّز، والخُطب في الحمالات، وإصلاح ذات البين، والتشبيب بالحاجّات، ومقاطع مفارقة لمألوف مقاطيع الأقاصيع من الطوال في المجامع العظام، والمشاهد الكرام، يزيده مرور الأيام والليالي جدّةً وطراوة، ويكسبه كرور الشهور والأعوام رونقاً وطلاوةً، لا يمجّه السمع، ولا ينبو عنه القلب، ولا يُبليه كثرة الدرس والقراءة، ولا تُخلقه شدة التلاوة والإعادة على ما في الحديث المعاد، والكلام المكرر من الثقل الفادح على الآذان، والأذى المبرح المجحف بالنفوس؛ يقصّ أخبار الأمم السالفة، ويعبّر عن أنباء المِلل، وعقائد النِّحل، ويترجم عن الجلود المتمزقة، والرمم البالية، والمثُلات النازلة، والعبر المنتقمة بخفة حجمه، ويسير جُرمه، مكررةً مرةً بعد أخرى وكأنها لغرابتها مبتدأةً، مرددةً ثانيةً غِبَّ أولى وكأنها لطلاوتها متنكرة؛ فأقرّ جماهيرهم بالعجز خاضعين، وبخع صناديدهم بالاستسلام مذعنين، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر. فارقوا سعة السلم إلى ضنك الحرب، وخرجوا عن التدافع بالقول إلى التدافع بالراح، بل إلى التمانع بالزجاج، إلى التطاعن بأطراف الأسنة والرماح، وأثاروا كامن العداوة، وهيّجوا ساكن التِّرة، وقدحوا بزند القتال وهو صالد، وأذكوا نار الملحمة وهي خامدة، ودعوا بشعارها الهيجاء، وشنوا الغارة الشعواء، وأخلّوا برعي مسارحهم، ووِرد مناهلهم، وإلف داراتهم وخططهم، وخبط أكلائهم ومناجعهم، والاستدراء بأفياء الخيام، والاختباء بأفنية البيوت، والشرب في مجالس العشيّ، والتشاور في ساحة الأندية، واستئمار الأزلام الملمة على المسلمين، يومض البرق ولا يشام، ويصوب القَطر ولا ينتجع، ويكثف المرعى ولا أكولة، ويدعو الشعب ولا رائد، والحمى عورة، والفضاء بلا حجارة الخرصان، وأبواب القِباء خلاء، لا تسدّها قرون الخيل، وهم في فرٍّ لا يُشق غباره، وفي كرٍّ لا يُنادى وليده. يطلب الأخ عند أخيه الثأر المُنيم، ويَجرُم الابنُ إلى قتل أبيه، وفَرْي أوداجه، والولوغ في دمه. مسَّ الطيب وشرب الخمر، ومعاطاة النديم، ويفردُ لمّته، ويشد المآزر دون إتيان النساء، ويترك جمّته السوداء شعثاء، وغسولها المسك والماورد، وقد غسل أصولها بدهن البان والمصون. فهو لابس مع البُردَيْن ثوب المحارب، وغامس يده في عطر مَنْشِمٍ، ومشمر ذيل الراكب بعد أن كان أجوى في الحي رَفِلاً، ومُبسط المشية في اليوم الخِصر، وقد احتجز خدمة سيفه، وخفر فضول لأمته بنجاده، وتنكّب قوسه، واعتقل رمحه، واستجنّ حجفته، وفرط للحصان عنانه في انتهاك حرمة عشيره، وسبي داريَّ حريمه، وغزوه في عقر داره، ويضيعه بالخِسف والصغار، وانتساف الدار. قد اعتاض خُمسَ الإسلام