للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الربيع كاسمه، ربيع القلوب، ونزهة العيون، وفرحة النفوس، وجلاء الصدور، وفسحة الآمال، وحركة الأجرام المصمتة، ونمو الجماد، كأنك شاهدت به العالم وسر الخلق، وعاينت الهيولى وتركيب البنية فيها والطينة وحدوث الصورة لها؛ ورأيت البسيط وتأليفه، والمفرد وازدواجه، وأبصرت نفخ الأرواح في الأشباح، وكيف تخرَّقت منافسها، وتحلَّلت محارقها؛ فأحسست الجوهر وحلول العرض فيه، والأشخاص وتنوعها، وكيف فتقت الأرض بالصدع حتَّى تأخذ زينتها، وتلبس البسيطة زخرفها من كل زوج بهيج ونشر أريج. فهي خصيبة الجناب، دمثة التراب، مهاد وثير للهاجع، وشعار كبير لليقظان الرائح. والشَّمس عوض من الصِّلاء، والهواء خلف من الغذاء، وصفحة السماء ريَّا تكاد رقة تقطر، وغضارة تمطر، وأوضاح الكواكب نيرة تزهر، كأنهن عيون زرق في البراقع، وأنوار الأقاحي على رياض بنفسج، أوْ نثر جمان في عرضة فيروزج، كأنما دراريهما شرر متقاذف والجو رمادها، أوْ خرائد سوافر والهواء حدادها، أوْ شذور ذهب أحمر على بساط زبرجد أخضر. والجو يبهى رقة وصفاء، وطلعة القمر لألاؤها كأنها ماويَّة عسجد سراة العشاء، وكأنه موجة مكفوفة والبر بحر من فيض قمرائه، والظلمة فجر من أشعة أضوائه، والشَّمس غرة مطلعها مرآة مصقولة في كف الأشل. أوْ كما تهتز الصحيفة الجلواء، أوْ كترس يقلبه كميٌّ رامح. فإذا كربت للمغيب، وعادت مذهبة الفرقد، ونفضت على أطراف الجدران ورس الأصيل كالملاء المعصفر، مدَّت على الأفق الغربي سطر ذهبي من شفق الغروب وجاديّ المغيب؛ فخلت السماء فرشاً كحليّاً مفروشاً أحد الطرفين بالذهب المنسوج والعبير الممزوج، وموصولاً أحد الطرفين بالإبريز المسبوك والوشي المحبول. يميع زبرجها في خضرة الأرض الأريضة والفضاء العريضة، منصدعة سهولها ووعورها، متَّسقة بطنانها وظهورها بجواهر الأزاهير خارجة من أكنة الصدف، وأنوار النوار ضاحكة خلال السدف، والتربة حلة وحرير، والنبات روضة وغدير، والقطر لؤلؤ نثير، وما بين ماحله وأفنان مكمّمه قد جرى في عودها الماء. وأشجار ذات جمم لم تمشطها النساء، وقرارة تطّرد كأنها فيضة مكروب، أوْ بثة مكظوم، أوْ نفثة مصدور، أوْ كما يتنفس الحزين الواجم، والمغتاظ الكاظم. وخدود عشب يضمّخها ثراها.

وأمواهٌ يصلُّ بها حصاها ... صليلَ الحليِ في أيدي الغواني

<<  <   >  >>