والصارم الهندواني. وظواهر الأطواد، وأقبال الأجلاد بعد العري والعطول فضفاضة الأردية، سابغة الذيول، في مقطعات الحلل، ومصنوعات الحلي، وقلل الجبال متوجة تميل في أطراف الأعشاب أجيادها، وتروق بكسوة الخضرة أجسادها. وعلى كل قنّة شاهقة، وشعفة شامخة غمام مكلل بالمرجان والدرر؛ وبكل سفح برد مهلل بقُراضة الفضة والتبر؛ مفصلات ألواذها وضواحيها، وهضباتها وأعاليها؛ بسيح نطفة زرقاء وفيض ثغرة سجراء، ورصف مترع ملآن، ومستنقع مفعم ريان. ففي كل قلتٍ ندوة كوكب، وعلى كل ثعبٍ هالة قمر، وبكل غدير طفاوة شمسٍ. فإذا نزلت في المذانب والقريان من الشعاف والمصدان انسرحت خلال رملٍ محقوقفٍ ونقاً مستدير، وأفضيت من عواقل الريود وفدر العصم وصحم الأراوي إلى أصورة المها، وأقاطيع الوحوش رواجع إلى السهول والأوعار، بعد أن كانت قواطع إلى المهامه لقفار، مختلطات الأسراب بالآجال هملاً بلا راع، وبدداً دون والٍ عليها ساع. بها العين والآرام يمشين خلفةً، والجآذر والغزلان ينادين صرمةً مؤتلفات جيرةً، وكن أبعاداً، وجميعاً، وكن أفراداً، فمن ثَمَّ جؤذر أحم السوارين، ومن هنا شادن أدعج الناظرين، حواضنها مولَّعة خنساء ومُغزل أدماء، بين صوارٍ للبقر حور العيون بابليَّات النظر، متولّجة مطافيلها بكل وِهاديّ المراتع يحرجُ كأنه مناط وشاح أوْ معلّق دملُج؛ كأنما هتكن سجوف الرقم والكلل عن ذوات الأهداب والوُطف وحور المقل؛ عينٌ كوانس كالعين الأوانس، لا يسكنّ إلاَّ بمنجاةٍ من الريب. وفرق الظباء ملاطمهنَّ شيمٌ كأن بلادهن سماءٌ تكشفت عن كواكبها غيومٌ من أُدمان الظباء الخواذل؛ لاوياتٌ السوالف كأنهن صفح المناصل، سواكن كل قذف فلاةٍ وبلدةٍ وسمية الثرى غداةٍ، معتادات كل مرتاد الندى خضل مستحلسٍ بعميم النبت مكتهلٍ؛ يراعي كل أحقب ذي سفعةٍ، أوْ أخطب ذي خطةٍ، ومسحَّجٍ عاري الصبيين ومرنِّ الضحى بين جدَّتين وكل أم ساجي الطرف وسنان ينوء من ضعاف فواتر، تستودعه الحمى وتنص إليه جيدها بالمناظر، أوْ مخرفٍ فردٍ بأعلى صريمةٍ عاطفٍ تتصدى لأحوى مدمع العين في فينان من الظل وارف. فواحم المدارى مؤلّلات حدادها كأنهن أقلام بلحظها يردن نطاف المصانع، مطّردة كالسيوف القواطع، عواقد أمهاتها من سحمِ القرون عقائص، كأنها ملوية الأسورة، أوْ مثنية الأهلة، كما سمعت الأول:
وقفتُ على العفر في ربعهمْ ... فخلتُ على رأسِ كلِّ هلالا
إذا قلت هل يرجعُ الظاعنو ... نَ تمثَّلَ لي كلُّ ترنٍ ألالا
وورق الحمائم عواطل في قلائد وعقود، وعوار في معمدات وبرود. وكل طروب الضحى هتوف العشا، تترنم خلال أوراق الغصون كما تقطع الكرائن، تحت الستائر، أصوات الأغاني واللحون، فيلتقي شتات المتيم بين اللحون.
يصلنَ بنوْحي نوحهنَّ وإنَّما ... بكيتُ لشجوي لا لنوحِ الحمائمِ
والنهار معتدل المزاج حره وبرده، ومستقيم ميزان ليله ونهاره. ولا قر يجمد، ولا حر يلفح. والماء فضة بلا ذهب، والشَّمس نور بلا لهب، وقد انحطَّت عن لفحة الهجير ووقدة الشِّعرى العبور، وارتفعت عن خصر الشتاء؛ وكوكب الجرباء تطلع في قميص شعاعٍ مذهب الزبرج، ويتساقط ضياؤها خلل الأوراق كاللؤلؤ المدحرج. والأعشاب غبَّ قطارها كالعروس تحت نثارها:
ذهبٌ حيثما ذهبنا ودرٌّ ... حيثُ درنا وفضةٌ في الفضاء
والجو مغيم وهو من تلألؤ الزهر مشمس. والليل مظلم وهو من تضاحك الأنوار مقمر. والريح سجواء الهبوب، تغازل الأرواح رقَّة، وتقرص الأبشار خفَّة، كأنها ذيل الغلالة المبلول، أوْ نفس المستهام العليل، فإذا اشتدت عصفتها، ومعجت هبَّتها حسبتها خرقاء ذات نيقة، وهوجاء جدّ رقيقة، نسجت على ظهور الكثبان ومتون الغدران مالا تنمِّقه الصوانع في صفحة القضيم، ولا تقدِّره الخوالق على فراء الأديم ببديع النَّسج في الكثيب، وتمحوه بإقبالها إلى الأدبار.
والفصل متحبَّب شمائله، متلوِّن خلائقه. بينا البرق ضاحكاً استحال باكياً، ووجه السماء مستبشراً راح ترفضُّ دموعه مستعبراً يختال الغصن الرويّ بقدِّه، والورد الجنيُّ بخده.
وترى الرياضَ كأنهنَّ عرائسُ ... يُنقلنَ من حمراءَ في صفراءِ
إذا لحظتَ زاهرَ الشجْراءِ ... وجدته مُصفرَ السماءِ
وإن شممت أرجَ الفضاءِ ... ألفيتهُ مُعنبرَ الهواءِ