يجري سلسال الماء على رضراض الحصباء مطَّرداً كأنه سبيل لجين ممدَّد، أوْ صفيح مجرَّد، أو متن يمان مهنَّد. حتَّى إذا ضربت الريح متنه تحلَّق وجهه، وتحزَّز جريه، فانجابت أقذاؤه وصفت كأنه حلق الجواشن مصقولاً حواشيها، أو متون المبارد مجلوّاً نواحيها:
ما إن يزالُ عليه طيرٌ كارعٌ ... كتطلُّعِ الحسناءِ في المرآةِ
والشَّمس يحسر مرة لثامها، وتارة يسيل غمامها؛ فهي تسفر وتنتقب، وتبرز وتحتجب طلاع فتاة تشرق اغتراراً، وتخاف اشتهاراً:
شمسٌ تُطالعنا فتمنحُنا ... نوراً يلاحظُنا بلا لهبِ
والخلاف يعقد على القضبان سموط درِّه، ويفتح ختام الربيع بمفترِّ ثغره. معندم القشر، معنبر النَّشر، مرصَّع قشره بنور كأنه لؤلؤ ولاف. والشقائق مصفوفة على الضواحي مطارده، منظومة في سفوح الجبال قلائده، ينشر جمَّته سوداء، وحلَّته حمراء، متمايلاً على قاماته الرشاق، متهادياً خلال الرياح بقضبانه الدقاق، كأنه سبج قرنت به عقيقاً، أو فحم أشعلت به حريقاً أو أقداح ياقوت قرارتها سحيق مسك أذفر، أو زنجيَّة قامت في معصفرة على ساق أخضر، تتهاداه الرياح فينثني ثمَّ يستوي كأنه سكران طافح، أو كما جرَّ رمحه رامح. وسقيط الطلّ عليها كأنه مواقع الدموع في خدود الخرائد، أو سقوط الفرائد من مناط القلائد في ترائب الولائد:
شقائقُ يحملنَ النَّدى فكأنَّها ... دموعُ التصابي في خدودِ الخرائد
والورد يقدم من خلل الربيع الباكر، وخصاص الريحان الزاهر، يحكي في معرض شجرة نسيم سحره؛ يحمرُّ خجلاً ويصفرُّ وجلاً، أوْ يبيضُّ جذلاً؟ ما بين أحمر كالحياء شيبت به الخدود، أوْ أصفر كالمحبّ أضرَّ به الصدود، أوْ أبيض كالنجوم مطالعها السعود:
وذي لونينِ نشرُ المسكِ فيه ... يروقُ بحُمرةٍ فوقَ اصفرارِ
كَمعْشوقيْنِ ضمَّهما عناقٌ ... على حدثانِ عهدٍ بالمزارِ
والنَّارنجُ تطلعُ بينَ الأغصانِ متَّقدةَ القشرِ بخالصِ العِقيان، أرجوانيَّة اللَّون، كما غمست بالدم قبيعة حسام مهنَّد، أو كأنها شموس عقيق في قباب زبرجد، أو الرّاح صرفاً، أو كخدٍّ مورَّد، أو كمرآةٍ مخروطة من الياقوت على صوالجة زمرُّد، أو حقاق مرجان مترعات من الدرّ في ملاحفها الخضر، أو كبَّة جمر محذوفة من جاحم النار، أو أنهار مضرَّجة ممسَّكة الحافات والأقطار:
أتتْ كلَّ مشتاقٍ بريّا حبيبهِ ... فهاجتْ له الأشواقَ من حيثُ لا يدري
والأترجُّ متهدِّلٌ من الأشجار أشباه نواهد الأبكار كالشمس معرضةً في ورس الأصائل، أو قناديل ذهبية نيطت بخضر السلاسل:
تخالُ بها في اخضرار الغُصو ... ن نواهدَ بين مُلاءِ القصبْ
والأقحوان ضاحك عن مباسم الثغور من كلَّة الخدور؛ تبدو أوراقه كافوريَّة الظَّهر والبطن، ولؤلؤيَّة البهجة والحسن:
تُذكرنا ريَّا الأحبَّةِ كلّما ... تنفَّسُ في جُنحٍ من اللَّيلِ باردِ
والبنفسج يأرج بذكاء الورد، ويعرض بصبغة اللاَّزوَرْد، أو قرص التجميش في صحن الخدّ:
كأنَّها فوقَ طاقاتٍ ضعُفنَ بها ... أوائلُ النَّارِ في أطرافِ كبريتِ
والنّرجسُ الغضُّ يزهو في مقاطعهِ ... كأنَّهنَّ عيونٌ مالها هدُبُ
أو أجفان فضَّة أحداقها من ذهب، أو أقداح ياقوت مخروطة من لؤلؤ رطب، أو فصوص درٍّ أبيض حول مصوغ تبر أصفر على قضيب زبرجد أخضر، أو رواصد عيون الرقباء لزيارة الأحبَّاء، أو كواكب تألَّقت في صفاء هواء على صحن سماء:
طَلعن نُجوماً خلالَ الريا ... ض ما بينَ زُهرةَ والفرقدِ
سهرنَ قياماً على ساقها ... ونمنَ وقد قطفتها يدي
والسّوسن مسبوكة ورقاته، متراكبة طبقاته، كأنه شقق صينيّ الحرير الممهّد على قدود رابية من خضر الزبرجد. ليِّن المسِّ، عبق المشمّ، خضل الورق، كأنه من رقَّته وشاح ولنفحته نضاح، كهدب الوشي المبلول أو نسيم السّحر المطلول.
كأنَّ أوراقه في كل شارقةٍ ... على الميادين أذنابُ الطواويسِ
والآذريون يشدّ الليل أزراره، ويفتح الصبح أبصاره كأنه كأس عقيق بقرارة مسك سحيق، أو نقطة مسك في خدّ متيَّم، أو إيماض بارقة في غيم أسحم، أو دارة سبج في صحيفة زبرجٍ:
أزرارُ ديباجٍ إذا الليلُ دجا ... وهنَّ في الصبح عيونٌ ساميهْ