وتأملا وتدبرا
أما التدبر والتأمل والتفكر فعبارات مترادفة على معنى واحد ليس تحتها معان مختلفة
وأما اسم التذكر والاعتبار والنظر فهى مختلفة المعانى وإن كان أصل المسمى واحد كما أن اسم الصارم والمهند والسيف يتوارد على شيء واحد ولكن باعتبارات مختلفة
فالصارم يدل على السيف من حيث هو قاطع والمهند يدل عليه من حيث نسبته إلى موضعه والسيف يدل دلالة مطلقة من غير إشعار بهذه الزوائد
فكذلك الاعتبار ينطلق على إحضار المعرفتين من حيث إنه يعبر منهما إلى معرفة ثالثة وإن لم يقع العبور ولم يمكن إلا الوقوف على المعرفتين فينطلق عليه اسم التذكر لا اسم الاعتبار وأما النظر والتفكر فيقع عليه من حيث إن فيه طلب معرفة ثالثة فمن ليس يطلب المعرفة الثالثة لا يسمى ناظرا فكل متفكر فهو متذكر وليس كل متذكر متفكرا
وفائدة التذكار تكرار المعارف على القلب لترسخ ولا تنمحى عن القلب
وفائدة التفكر تكثير العلم واستجلاب معرفة ليست حاصلة
فهذا هو الفرق بين التذكر والتفكر
والمعارف إذا اجتمعت في القلب وازدوجت في القلب على ترتيب مخصوص أثمرت معرفة أخرى فالمعرفة نتاج المعرفة
فإذا حصلت معرفة أخرى وازدوجت مع معرفة أخرى حصل من ذلك نتاج آخر
وهكذا يتمادى النتاج وتتمادى العلوم ويتمادى الفكر إلى غير نهاية وإنما تنسد طريق زيادة المعارف بالموت
أو بالعوائق وهذا لمن يقدر على استثمار العلوم ويهتدى إلى طريق التفكير
وأما أكثر الناس فإنما منعوا الزيادة في العلوم لفقدهم رأس المال وهو المعارف التى بها تستثمر العلوم كالذى لا بضاعة له فإنه لا يقدر على الربح وقد يملك البضاعة ولكن لا يحسن صناعة التجارة فلا يربح شيئا فكذلك قد يكون معه من المعارف ما هو رأس مال العلوم ولكن ليس يحسن استعمالها وتأليفها وإيقاع الازدواج المفضى إلى النتاج فيها
ومعرفة طريق الاستعمال والاستثمار تارة تكون بنور إلهى في القلب يحصل بالفطرة كما كان للأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وذلك عزيز جدا وقد تكون بالتعلم والممارسة وهو الأكثر
ثم المتفكر قد تحضره هذه المعارف وتحصل له الثمرة وهو لا يشعر بكيفية حصولها ولا يقدر على التعبير عنها لقلة ممارسته لصناعة التعبير في الإيراد
فكم من إنسان يعلم أن الآخرة أولى بالإيثار علما حقيقيا ولو سئل عن سبب معرفته لم يقدر على إيراده والتعبير عنه مع أنه لم تحصل معرفته إلا عن المعرفتين السابقتين وهو أن الأبقى أولى بالإيثار وأن الآخرة أبقى من الدنيا فتحصل له معرفة ثالثة وهو أن الآخرة أولى بالإيثار فرجع حاصل حقيقة التفكر إلى إحضار معرفتين للتوصل بهما إلى معرفة ثالثة
وأما ثمرة الفكر فهى العلوم والأحوال والأعمال ولكن ثمرته الخاصة
العلم لا غير
نعم إذا حَصَلَ الْعِلْمُ فِي الْقَلْبِ تَغَيَّرَ حَالُ الْقَلْبِ وَإِذَا تَغَيَّرَ حَالُ الْقَلْبِ تَغَيَّرَتْ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ
فالعمل تابع الحال والحال تابع العلم والعلم تابع الفكر
فَالْفِكْرُ إِذَنْ هُوَ الْمَبْدَأُ وَالْمِفْتَاحُ لِلْخَيْرَاتِ كُلِّهَا وهذا هو الذى يكشف لك فضيلة التفكر وأنه خير من الذكر والتذكر لأن الفكر ذكر وزيادة
وذكر القلب خير من عمل الجوارح بل شرف العمل لما فيه من الذكر
فإذن التفكر أفضل من جملة الأعمال ولذلك قيل تفكر ساعة خير من عبادة سنة فقيل هو الذى ينقل من المكاره إلى المحاب ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة وقيل هو الذى يحدث مشاهدة وتقوى ولذلك قال تعالى {لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا} وإن أردت أن تفهم كيفية تغير الحال بالفكر فمثاله ما ذكرناه من أمر الآخرة فإن الفكر يعرفنا أن الآخرة أولى بالإيثار فإذا رسخت هذه المعرفة يقينا