في قلوبنا تغيرت القلوب إلى الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا
وهذا ما عنيناه بالحال إذ كان حال القلب قبل هذه المعرفة حب العاجلة والميل إليها والنفرة عن الآخرة وقلة الرغبة فيها
وبهذه المعرفة تغير حال القلب وتبدلت إرادته ورغبته ثم أثمر تغير الإرادة أعمال الجوارح في إطراح الدنيا والإقبال على أعمال الآخرة
فههنا خمس درجات أولاها التذكر وهو إحضار المعرفتين في القلب وثانيتها التفكر وهو طلب المعرفة المقصودة منهما والثالثة حصول المعرفة المطلوبة واستنارة القلب بها
والرابعة تغير حال القلب عما كان بسبب حصول نور المعرفة
{والخامسة} خدمة الجوارح للقلب بحسب ما يتجدد له من الحال
فكما يضرب الحجر على الحديد فيخرج منه نار يستضىء بها الموضع فتصير العين مبصرة بعد أن لم تكن مبصرة وتنتهض الأعضاء للعمل فكذلك زناد نور المعرفة هو الفكر فيجمع بين المعرفتين كما يجمع بين الحجر والحديد ويؤلف بينهما تأليفا مخصوصا كما يضرب الحجر على الحديد ضربا مخصوصا فينبعث نور المعرفة كما تنبعث النار من الحديد ويتغير القلب بسبب هذا النور حتى يميل إلى ما لم يكن يميل إليه كما يتغير البصر بنور النار فيرى ما لم يكن يراه
ثم تنتهض الأعضاء للعمل بمقتضى حال القلب كما ينتهض العاجز عن العمل بسبب الظلمة للعمل عند إدراك البصر ما لم يكن يبصره
فإذن ثمرة الفكر العلوم والأحوال والعلوم لا نهاية لها والأحوال التى تتصور أن تتقلب على القلب لا يمكن حصرها
ولهذا لو أراد مريد أن يحصر فنون الفكر ومجاريه وأنه فيماذا يتفكر لم يقدر عليه لأن مجارى الفكر غير محصورة وثمراته غير متناهية نعم نحن نجتهد في ضبط مجاريه بالإضافة إلى مهمات العلوم الدينية وبالإضافة إلى الأحوال التى هى مقامات السالكين ويكون ذلك ضبطا جمليا فإن تفصيل ذلك يستدعى شرح العلوم كلها وجملة هذه الكتب كالشرح لبعضها فإنها مشتملة على علوم تلك العلوم تستفاد من أفكار مخصوصة
فلنشر إلى ضبط الجامع فيها ليحصل الوقوف على مجارى الفكر
بيان مجارى الفكر
أعلم أن الفكر قد يجرى في أمر يتعلق بالدين وقد يجرى فيما يتعلق بغير الدين وإنما غرضنا ما يتعلق بالدين فلنترك القسم الآخر
ونعنى بالدين المعاملة التى بين العبد وبين الرب تعالى فجميع أفكار العبد إما أن تتعلق بالعبد وصفاته وأحواله وإما أن تتعلق بالمعبود وصفاته وأفعاله لا يمكن أن يخرج عن هذين القسمين
وما يتعلق بالعبد إما أن يكون نظرا فيما هو محبوب عند الرب تعالى أو فيما هو مكروه ولا حاجة إلى الفكر في غير هذين القسمين
وما يتعلق بالرب تعالى إما ان يكون نظرا في ذاته وصفاته وأسمائه الحسنى وإما أن يكون في أفعاله وملكه وملكوته وجميع ما في السموات والأرض وما بينهما
وينكشف لك انحصار الفكر في هذه الأقسام بمثال وهو أن حال السائرين إلى الله تعالى والمشتاقين إلى لقائه يتعلق بمعشوقه أو يتعلق بنفسه
فإن تفكر في معشوقه فإما أن يتفكر في جماله وحسن صورته في ذاته ليتنعم بالفكر فيه وبمشاهدته وإما ان يتفكر في أفعاله اللطيفة الحسنة الدالة على أخلاقه وصفاته ليكون ذلك مضعفا للذة ومقويا لمحبته