للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقوله: {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} (التوبة: ٦٧)، وقوله: {قَالُوا إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (البقرة: ١٤)، فلم تنسب هذه الأفعال (الخداع، المكر، الكيد ... ) إلى الله؛ إلا في باب المقابلة لفعل الكافرين، من غير أن تكون معانيها مُرادة على الحقيقة.

والتدقيق في معاني تلك الآيات يبين أنها لا تدل على معان سيئة في حديثها عن أفعال الله، فمكر الله في قصة قوم صالح هو إهلاكهم لكفرهم: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} (النمل: ٤٩ - ٥١) فالمكر الإلهي هنا هو عذاب الله الذي أتاهم وهم لا يشعرون، وليس في هذا أي معنى يستقبح.

وأما الخداع في قوله تعالى: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ}، فهو "إمْهال الله لهم في الدنيا حتى اطمأنّوا وحسبوا أن حيلتهم وكيدهم راجَا على المسلمين، وأنّ الله ليس ناصرهم .. فإطلاق الخداع على استدراج الله إيّاهم استعارة تمثيلية، وحسنَّتَهْا المشاكلة" (١).

ولما أراد اليهود بالمسيح السوء، وحاكوا مؤامرتهم للقبض عليه مكر الله بهم فأنجى المسيح بأسلوب خفي عليهم، ولذلك قال الله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (آل عمران:٥٤)، فمكر الله هو إنجاء المسيح منهم، وعدم تحقيق أهدافهم، وهو غاية نبيلة ومقصد كريم.

ومثله إنجاء الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - من مؤامرة قريش حين اجتمعوا على بابه يريدون قتله يوم الهجرة، فقال الله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال: ٣٠)، فإنجاء نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليس فيه ما يستقبح.

ونطوي التفصيل في بقية الصور فهي على مثل ما بيناه.

ولن يفوتنا التنبيه إلى أمر صحيح ذكره أهل العلم باللغة، حين قالوا: هذه الألفاظ (المكر والكيد والخداع) لا تُستقبَح معانيها في لغة العرب ابتداء، إنما تستقبح باعتبار ما أضيفت إليه، فالمكر - مثلاً - هو التوصل بالأسباب الخفية إلى الإيقاع بالعدو، فمكرك بأحدهم تمكنك منه من غير أن يتنبه إلى فعلك وتدبيرك، فهذا في اللغة (مكر)، ولا يوصف بمدح أو ذم إلا بمعرفة ما ينضاف إليه، فتوصل المرء إلى حقه بأسلوب خفي (مكر) ممدوح، وتوصله إلى حقوق الناس بأسلوب خفي (مكر) مذموم.

وهكذا فإن الله عز وجل يقابل مكر الكافرين السيء (أي سعيهم للإيقاع بالأنبياء على وجه خفي) بالمكر الحسن (إنجاء الأنبياء بوجه خفي)، فهذا معنى قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ


(١) التحرير والتنوير، ابن عاشور (٥/ ٣٢٩)، وانظر: مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني (١/ ٢٨٩).

<<  <   >  >>