للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يقول ابن الجزري: "الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة .. فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرؤه في كل حال، كما جاء في صفة أمته: «أناجيلهم في صدورهم» " (١).

وهكذا كان الإقبال على القرآن دأب الأمة المسلمة منذ الرعيل الأول وإلى يومنا هذا؛ حيث نشهد ملايين الحفاظ في أقطار الدنيا، يقرؤونه غضاً كما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأجناسهم؛ ليحققوا موعود الله عز وجل بحفظ كتابه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: ٩).

لقد حفظ القرآن كما نزل بلسان العرب، ولم يكن ذلك الحفظ مخصوصاً بالعرب دون غيرهم من المسلمين، فمئات الألوف ممن يحفظونه اليوم ليسوا من أهل العربية، بل لربما حفظه من لا يكاد يعرف شيئاً عن لغة العرب ومعاني ألفاظها، فيقرؤه بلسان عربي مبين، كما يقرؤه العربي سواء بسواء.

إن هذه الأعجوبة القرآنية لا مثيل لها عند أمة من الأمم، ومن أراد أن يقف على عظمتها فليجرب حفظ قصيدة كتبت بلغة يجهلها، ولسوف يشهد معنا أن حفظ الجموع الكاثرة من الأعاجم للقرآن برهان ساطع على أنه من عند الله، فقد يسر الله تلاوة كتابه على الناس، بحيث يقرؤه الصغير والكبير، والعالم والجاهل {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر: ١٧)، فهذا التيسير لا يكون إلا لعظمة تعجز عن بلوغها قوى البشر، وتكل دونها قدراتهم.


(١) النشر في القراءات العشر، ابن الجزري (١/ ٦)، والحديث أخرجه الطبراني في معجمه الكبير ح (٩٩٠٣)، والبيهقي في دلائل النبوة ح (٣٤٣).

<<  <   >  >>