للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَحَدِهِمَا فَيَلْزَمُهُ أَدَاءُ الآخَرِ، لاَ سِيَّمَا أَنَّ تَرْكَهُ قَدْ يَكُونُ كَتْمًا لِلأَحْكَامِ، فَإِنْ لَمْ يَنْسَهْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُورِدَهُ بِغَيْرِهِ، لأَنَّ فِي كَلاَمِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْفَصَاحَةِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ» (١). وقال السيوطي: «وَلاَ شَكَّ فِي اشْتِرَاطِ أَنْ لاَ يَكُونَ مِمَّا تَعَبَّدَ بِلَفْظِهِ ... وَعِنْدِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَكُونَ مِنْ جَوَامِعِ الكَلِمِ» (٢).

بعد هذا يمكننا أن نحكم أن رواية الحديث بالمعنى كانت للضرورة، وكانت بقدر وخاصة بعد أن عرفنا ورع الصحابة والتابعين، ودقتهم في رواية الأخبار، وتحفظهم وتثبتهم مما يَرْوُونَ أو يسمعون، وهذا يُرَجِّحُ عندي أن الرواية بالمعنى إن وقعت تاريخيًا من بعض الصحابة، فإنما كانت بألفاظ قريبة جِدًّا من ألفاظه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأنهم رَأَوْا رَسُولَ اللهِ - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، وسمعوا منه وتخرجوا بحلقاته، واستضاءت قلوبهم بتوجيهه وعنايته، وكانوا على جانب عظيم من البيان والفصاحة، وهم أعلم الأُمَّةِ بلغة العرب، لم يتسرب إلى كلامهم اللحن، ولم يغير سليقتهم ولسانهم امتزاج الأمم والشعوب.

وَيُقَوِّي عندي أن معظم ما رواه الصحابة والتابعون كان بلفظ الرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن بعضهم كان يكتب الحديث بين يدي النبي الكريم، وكانوا يعقدون الحلقات يتذاكرون فيها ما يسمعونه منه - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، ويصحح بعضهم أخطاء بعض، وإذا شكوا في أمر أو أشكل عليهم شيء رجعوا إلى النبي الأمين - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان أكثر الرواة من التابعين يكتبون ما يسمعون من الصحابة ويحفظونه، فمنهم من يذاكر الحديث حتى إذا ما وعاه صدره محاه، ومنهم من يحفظه ويحتفظ بصحفه وألواحه، ومنهم من حرص


(١) " تدريب الراوي ": ص ٣١٣.
(٢) المرجع السابق: ص ٣١٤.