وكثيرًا ما كانت تعقد مجالس المذاكرة وتقام المناظرات بين أصحاب الحديث لتعرف طرقه، ويكشف عن القوي والضعيف منها، وفي هذا يقول يَزِيدُ بْنِ هَارُونَ:«أَدْرَكْتُ النَّاسَ يَكْتُبُونَ عَنْ كُلٍّ - مِنَ المَشَايِخِ الأَقْوِيَاءِ وَالضُّعَفَاءِ -، فَإِذَا وَقَعَتِ الْمُنَاظَرَةُ حَصَّلُوا»(١).
مما سبق يتبين لنا اهتمام الصحابة والتابعين وأتباعهم بالسنة المطهرة، وحرصهم على الحديث النبوي الشريف، فعرفنا كيف كانوا يحدثون طلابهم وكيف كانوا يعتنون بصغارهم، ويحرصون على تربيتهم التربية الصالحة، على هدى محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما عرفنا آدابهم في الحديث وطلبه، واحترامهم لعلمائهم، وحرص الطلاب على دراسة السنة وحفظها ومذاكرتها وتثبيتها في صدورهم والعمل بها، كل ذلك يعطينا صورة حية عن النشاط الحديثي في ذلك العصر، صورة مخطوطة عن الحركة العلمية القوية التي كانت في عصر الصحابة والتابعين، تلك الحركة التي كان لها الفضل العظيم في حفظ السُنَّةِ.
وإن ما قدمناه لا يعدو الخطوط العريضة لتلك الحركة الواسعة، التي كانت في الصدر الأول وقد أغفلنا كثيرًا من التفصيلات التي تتعلق بسن السماع وطريقة الرواية والتلقي، وكيفية القراءة على المحدث، وكل ما يتعلق بدرجات تحمل الحديث وأدائه، مما تكفلت بشرحه كتب مصطلح الحديث وعلومه.
وهكذا خرجنا من هذا البحث بخلاصة هامة، هي أن الحديث الشريف لقي عناية وحفظًا واهتمامًا عظيمًا من أبناء ذلك العصر، الذين تولوا نقله بأمانة وإخلاص إلى الجيل الذي تلاهم، ثم أدت الأجيال المتعاقبة هذه الأمانة حتى وصلت إلينا في أمهات الكتب الصحيحة.