الكاتبون أن يعللوا بها عدم التدوين، ولا نستطيع أن نوافقهم على ما قالوه من أن قلة التدوين في عهده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، تعود قبل كل شيء إلى ندرة وسائل الكتابة، وقلة الكتاب، وسوء كتابتهم (١) - لا يمكننا أن نسلم بهذا بعد أن رأينا نَيِّفًا وثلاثين كاتبًا يتولون كتابة الوحي للرسول الكريم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم يتولون أموره الكتابية الأخرى، ولا يمكننا أن نعتد بقلة الكتاب، وعدم إتقانهم لها، وفيهم المحسنون المتقنون أمثال زيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو بن العاص، ولو قبلنا جدلاً ما ادعوه من ندرة وسائل الكتابة وصعوبة تأمينها، لكفى في الرد عليهم أن المسلمين دَوَّنُوا القرآن الكريم ولم يجدوا في ذلك صعوبة، فلو أرادوا أن يُدَوِّنُوا الحديث مَا شَقَّ عَلَيْهِمْ تحقيق تلك الوسائل، كما لم يشق هذا على من كتب الحديث بإذن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا بد من أسباب أخرى، وإنا لنرى تلك الأسباب من خلال الآثار الثابتة عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن الصحابة والتابعين، وسنرى أن تدوين الحديث مر بمراحل منتظمة حققت حفظه، وصانته من العبث، وقد تضامنت الذاكرة والأقلام، وكانا جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ في خدمة الحديث اشريف، ونستعرض الآن تلك الآثار التي تلقي لنا بعض الضوء على حقيقة تدوين السنة.
...
(١) انظر " تأويل مختلف الحديث "، قال: «وَكَانَ غَيْرُهُ - ابن عمرو بن العاص - مِنَ الصَّحَابَةِ أُمِّيِّينَ، لاَ يَكْتُبُ مِنْهُمْ إِلاَّ الوَاحِدُ وَالاثْنَانِ، وَإِذَا كَتَبَ لَمْ يُتْقِنْ، وَلَمْ يُصِبْ التَّهَجِّيَ» ص: ٣٦٦. إن هذا يتنافى مع ما بينهاه من تعلم المسلمين للكتابة، فتعميم ابن قتيبة هذا لا يستند إلى دليل. وانظر " مقدمة ابن خلدون": ص ٥٤٣.