بعضها بالوضع والاختلاق، وسنوجز فيما يلي بعض ما روي عن الصحابة من إجازة تقييد الحديث، ليتبين صحة ما ذهبنا إليه.
وقبل أن أتناول هذه الأخبار لاَ بُدَّ لي من أن أقلب النظر فيما روي عن محاولة عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - جمع السنة وتدوينها، كما جمع القرآن الكريم، ثم عدوله عن ذلك خَوْفًا من أن يلتبس الكتاب بالسنة، وخشية ألا يميز المسلمون الجدد بينهما. أقول: إن محاولته هذه تدل على اقتناعه بجواز كتابة الحديث الشريف، وهذا ما انتهى به أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد النهي عن الكتابة، ولو شك عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في الجواز - مَا هَمَّ بأن يفعل ما منعه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما كرهه، فإحجام الفاروق لم يكن لكراهة الكتابة، بل لمانع يقتضي أن يتريث في التدوين والجمع لمصلحة أخطر وأعظم، ولذلك رأيناه يكتب بنفسه لمن يأمن عليه اللبس ويثق به، وربما سمح عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بالكتابة بعد أن رأى حفظ الأمة لكتاب الله تعالى بجمعه في المصحف الشريف، ويقوي هذا ما يروى عن عمرو بن أبي سفيان من أنه سمع عمر بن الخطاب يقول:«قيِّدُوا العِلْمَ بِالكِتَابِ»(١).
ثم إن بعض الصحابة أنفسهم قد أجاز الكتابة، وكتب بعضهم بيده، وتغير رأي من عرف منهم النهي عن كتابة الحديث حينما زالت أسباب المنع، وخاصة بعد أن جمع القرآن في المصاحف وأرسل إلى الآفاق.
ولا ينقض هذا الرأي الذي ذهبنا إليه ما رُوِيَ عن أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق كتب له فرائض في الصدقة التي سَنَّهَا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
(١) " تقييد العلم ": ص ٨٨، و" جامع بيان العلم ": ص ٧٢ جـ ١. «وَوَجَدَ ابْنُ عُمَرَ فِي قَائِمِ سَيْفِ أَبِيهِ صَحِيفَةً». انظر " الكفاية ": ص ٣٥٤، و" توجيه النظر ": ص ٣٤٨.