للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

شيئًا من هذا فيما عرضناه من أخبار عن سماح الصحابة والتابعين بالكتابة وكتاباتهم لأنفسهم.

وهكذا كانت نهاية القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني خاتمة حاسمة لما كان من كراهة الكتابة وإباحتها، فدونت السنة في صحف وكراريس ودفاتر، وكثرت الصحف في أيدي طلاب الحديث.

...

وقد يظن الباحث أن كراهة الكتابة قد ولت، وانهزمت أمام إباحتها، ولم تعد هذه الإباحة مجرد رأي، بل انتقل الرأي إلى التطبيق فعلاً، وتبنت الدولة الإشراف على الكتابة، ولكنا لا نثبت أن نسمع أصوات من يكره الكتابة تعلو من جديد، وكان بعض هؤلاء من نفس جيل التابعين الثاني (أواسطهم) ومن صغارهم، فقد راعهم أن يروا الحديث في كراريس ودفاتر، وأن يعتمد طلاب الحديث والعلماء على الكتب، ويهملوا الحفظ، فتمسكوا بالآثار التي تبيح الكتابة، وأبوا أن ينكب أهل الحديث على دفاترهم، ويجعلوها خزائن علمهم، ولم يعجبهم أن يخالف سبيل الصحابة في الحفظ والاعتماد على الذاكرة، وحق لهم أن يكرهوا الاتكال على الكتب، لأن في الاتكال على المكتوب وحده إِضْعَافًًا للذاكرة، وانصرافًًا عن العمل به.

وها هو ذا الضحاك بن مزاحم الذي أباح الكتابة سابقًا، والذي أملى مناسك الحج حين زال خوفه من أسباب الكراهة - ها هو ذا يقول: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكْثُرُ فِيهِ الأَحَادِيثُ حَتَّى يَبْقَى المُصْحَفُ بِغُبَارِهِ لاَ يُنْظَرُ فِيهِ» (١)، وفي رواية عنه: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ [يُعَلِّقُونَ] الْمُصْحَفَ حَتَّى [يُعَشِّشَ] فِيهِ العَنْكَبُوتُ، لاَ يُنْتَفَعُ بِمَا فِيهِ، وَتَكُونُ أَعْمَالُ النَّاسِ بِالرِّوَايَاتِ وَالْحَدِيثِ» (٢).


(١) " جامع بيان العلم ": ص ٦٥ جـ ١.
(٢) " جامع بيان العلم ": ص ١٢٩ جـ ١.