للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لقد تصور عاقبة هذا الإقبال على الكتابة، وجعل الحديث في دفاتر وكراريس، فأعلن إنكاره مدويًا: «لاَ تَتَّخِذُوا لِلْحَدِيثِ كَرَارِيسَ كَكَرَارِيسِ المَصَاحِفِ» (١).

ويمكننا أن نحمل قول الزهري: «كُنَّا نَكْرَهُ كِتَابَ العِلْمِ، حَتَّى أَكْرَهَنَا عَلَيْهِ هَؤُلاَءِ الأُمَرَاءُ، فَرَأَيْنَا أَنْ لاَ نَمْنَعَهُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (٢) - على ما بيناه، لأننا نعرف أن الإمام الزهري كان يكتب الحديث وهو في دور طلب العلم، وكان يشجع أصحابه على الكتابة، حتى إنه كان يكتب في ظهر نعله خشية - أن يفوته الحديث (٣) وفعلاً عندما طلب منه الخليفة هشام بن عبد الملك أن يكتب لِبَنِيهِ خرج وأملى على الناس الحديث (٤) وقال: «اسْتَكْتَبَنِي الْمُلُوكُ فَأَكْتَبْتُهُمْ، فَاسْتَحْيَيْتُ اللَّهَ إِذْ كَتَبْتُهَا المُلُوكَ أَلاَّ أَكْتُبَهَا لِغَيْرِهِمْ» (٥).

وقد سبق أن بينت أن حرصه على تنقيح السُنَّةِ كان عاملاً كبيرًا في تدوينه الحديث هو وبعض معاصريه.

وكان سعيد بن عبد العزيز يفخر بحفظه ويقول: «مَا كَتَبْتُ حَدِيثًا قَطُّ» (٦). ونرى الإمام الأوزاعي بعد أن كان يملي على طلابه ويصحح لهم ما يكتبونه عنه ليجيزهم بروايته (٧)، ينفر من الاعتماد على الكتاب، ويتشاءم مما سيؤول إليه الحفظ فلا يسره الميل عن طريق السلف الذين كانوا يتلقون الحديث من


(١) " تقييد العلم ": ص ٤٧.
(٢) المرجع السابق: ص ١٠٧، و" طبقات ابن سعد ": ص ٣٥ قسم ٢ جـ ٢.
(٣) انظر " تقييد العلم ": ص ١٠٧.
(٤) انظر " حلية الأولياء ": ص ٣٦٣ جـ ٣.
(٥) " جامع بيان العلم وفضله ": ص ٧٧ جـ ١.
(٦) " سنن الدارمي ": ص ١٢١ جـ ١، و" تذكرة الحفاظ ": ص ٢٠٣ جـ ١ وتوفي سعيد بن عبد العزيز سَنَةَ (١٦٧ هـ).
(٧) انظر " الكفاية ": ص ٣٢٢.