للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والعفو (أو الحلم) هو سيد الأخلاق، ومن ثم يجب أن يتحلى به السادة لأن العفو سيادة على النفس وارتفاع وسمو على مطالبها ورغباتها، ولا سبيل إلى السيادة قبل هذه السيادة على النفس إن العدل حسن ولكن العفو أحسن لأنه بدل أن تأخذ حقك بمقتضى العدل تتخلى عنه وتتفضل به بمقتضى الإحسان والعفو، ولذا قال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، ومما يوضح ذلك ما يروي من أن حربا حاطمة وقعت بين حيين من العرب كادت تبيدهما معا فأفزع هذا المصير بعض سادة العرب المحنكين، فوقف بين الصفين وقال: ما تريدون؟ أتريدون الحق أو ما هو خير من الحق؟ قالوا: وما هو خير من الحق؟ قال: العفو! فما كان من الفريقين إلا أن أعادوا السيوف في الأغماد، وتبادروا إلى التسليم على بعضهم بعضا. وإن الفرق بين العدل والعفو- بعبارة أخرى- أن العدل أخذ والعفو عطاء، وشتان ما بينهما، ومن هنا سمى الله الزائد على العدل إحسانا، في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}، ومن شرف الإسلام وسمو مبادئه، أنه يأمر بهما معا، كما تشير إليه الآية المتقدمة، ولكن ما حال شعب أفلس منهما معا؟ أما الشعب الذي يتفيأ ظلي العدل والإحسان ويتغذى بثمارهما الشهية، فهو بمنجاة من هجير الحياة، وفي بحبوحة من رغد العيش، وذلك من حظ الشعوب التي تجعل من الإسلام دستورها ومن تعاليمه السامية منهجها في الحياة.

وهذا الخلق العظيم- خلق العفو والحلم- ينبع من خلق آخر، وهو الرحمة، التي تنبع هي الأخرى من المعرفة بالضعف الإنساني، الذي يستوجب الرحمة، وعظمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومفتاح شخصيته، تقوم على هذا الخلق الذي وصفه الله به في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وفي قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ووصف هو نفسه، إذ قال: " أنا رحمة مهداة" وحسب هذا الخلق مكانة وركانة أن الله يعزو، إليه نجاح محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته إذ يقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}.

وبما أن هذا الخلق هو الصخرة التي ترتكز عليها عظمة محمد صلى الله عليه وسلم والينبوع الذي تتفرع عنه جداول أخلاقه الأخرى، فإننا نلحظ أن الله يحاسبه عليه كلما رآى منه أقل انحراف عنه، مثلما فعل في قصة عبد الله بن أم مكتوم الأعمى

<<  <   >  >>