للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حين طلب إليه، وألح في الطلب، أن يعلمه مما علمه الله، في الوقت الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم متصديا لإقناع بعض سادات قريش، فكان منه صلى الله عليه وسلم ما عبرت عنه أوائل سورة (عبس) بهذا العتاب الإلاهي الزاجر، الذي بقي درسا خالدا خلود القرآن فيما يجب أن يكون عليه رجل الدعوة، من التواضع والرأفة والرفق والصبر وسعة الصدر:

{عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}.

ومما يدل على تأثير هذه الحادثة على وجدان النبي صلى الله عليه وسلم وقوة انطباعها في نفسه، وعلى مدى صدق عائشة رضي الله عنها في قولها عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان خلقه القرآن) ودقة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أدبني ربي فأحسن تأديبي".

أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان كلما لقي ابن أم مكثوم بعد ذلك يقول: "مرحبا بمن عاتبني فيه ربي".

ومثلما فعل في غزوة أحد عندما استشهد حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم ومثل به الأعداء وقال عليه الصلاة والسلام: "أما والله لأمثلن بسبعين منهم" أنزل الله عليه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} ذلك لأن موجهه القرآن لا يريد أن يتخلى عن هذا الخلق الذي ترتكز عليه شخصية الداعية الناجحة وهو خلق الصبر والأناه، خلق الرحمة والشفقة، والمثلة ضد الرحمه على خط مستقيم، كيف وهو قد بعث رحمة للعالمين؟

غير أن من تمام التربية المثلى والتوجيه الرشيد أن تتخلف هذه الرحمة في بعض الأحيان وأن يأمر الله نبيه- نبي الرحمة- بغير الرحمة! بالغلظة! وذلك فيما إذا وصل الأمر إلى المبادئ: إلى صميم العقيدة، إلى كيان هذا الدين الذي أراد الله له الحياة، لتتجمل وتكمل به الحياة، ويستقيم سير الأحياء، فيقول له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}.

<<  <   >  >>