وحميّة تملأ جوانحه، ونشاهده بطلا شجاعا، يصمد وحده لآلاف من أعدائه غير مكترث بكثرتهم، وهو مع ذلك رقيق القلب، رحيم رؤوف، متعفف عن سفك قطرة دم. وتراه مشغول الفكر بجزيرة العرب كلّها، بينما هو لا يفوته أمر من أمور بيته، وأزواجه، وأولاده، ولا من أمور فقراء المسلمين ومساكينهم، ويهتمّ بأمر الناس الذين نسوا خالقهم، وصدّوا عنه، فيحرص على إصلاحهم. وبالجملة: إنّه إنسان يهمه أمر العالم كله، وهو مع ذلك متبتل إلى الله، منقطع عن الدّنيا، فهو في الدّنيا وليس فيها، لأنّ قلبه لا يتعلّق إلا بالله، وبما يرضي الله. لم ينتقم من أحد قطّ لذات نفسه، وكان يدعو لعدوه بالخير، ويريد لهم الخير، لكنّه لا يعفو عن أعداء الله، ولا يتركهم، ولا يزال ينذر الذين قد صدّوا عن سبيل الله، ويوعدهم عذاب جهنم. تراه زاهدا في الدّنيا، عابدا، يقوم الليل لذكر الله ومناجاته. كما تتصور من شمائله: أنّه الجنديّ الباسل المقاتل بالسّيف.
وتراه رسولا حصيفا، ونبيا معصوما في الساعة التي تتصوره فيها فاتحا للبلاد، ظافرا بالأمم. وإنّه ليضطجع على حصير له من خوص، ويتكىء على وسادة حشوها من ليف حينما يخطر على بالنا أن ندعوه بسلطان العرب، وننادي به ملكا على بلاد العرب. ويكون أهل بيته في فاقة وشدّة عقب استقباله الأموال العظيمة آتية إليه من أنحاء الجزيرة العربية، فتكون في فناء مسجده أكواما، وتأتيه بنته وفلذة كبده فاطمة تشكو إليه ما تكابده من حمل القربة والطّحن بالرّحى حتى مجلت يداها، وأثّرت القربة في جسمها، والرسول يومئذ يقسم بين المسلمين ما أفاء الله عليهم من عبيد الحرب وإمائها، فلا تنال بنته من ذلك إلا دعاءه لها بكلمات يعلّمها كيف تدعو بها ربّها. وجاءه ذات يوم صاحبه عمر، فأجال بصره في الحجرة فلم يجد إلا حصيرا من خوص قد اضطجع الرسول عليه، وأثر في جنبه، وكل ما في البيت صاع من شعير في وعاء، وعلى مقربة منه شنّ معلّق على وتد. هذا كل ما كان يملك رسول الله يوم دان له نصف العرب. فلما رأى عمر ذلك لم يتمالك نفسه من دموع تذرفها عيناه، فسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عمر؟! فقال: ومالي لا أبكي، إنّ قيصر، وكسرى يتمتعان بالدّنيا،