للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إنّ عبد يا ليل- وأظنكم تذكرون اسمه- قد جبه الرسول هو وعشيرته بالمكروه، وآذوه أذى شديدا. فلما نزل مع قومه على الرسول صلّى الله عليه وسلم في المدينة بعد ذلك أنزله في مسجده، وضرب له قبّة فيه، وجعل يزوره بعد كلّ عشاء، ويقصّ عليه ما كان يلقى وهو في مكة من عناء وجهد، ومن هو عبد يا ليل؟ هو الذي استقبل الرسول صلّى الله عليه وسلم في الطائف بالأذى، ورجمه بالحجارة، وسامه الخسف، فهل عهد من أحد فيما مضى أن يحبّ عدوّه، ويعفو عنه بمثل هذه السماحة عند المقدرة؟ ولما فتح المسلمون مكة، ودخلوها أعزة ظافرين؛ اجتمع رجال قريش، وأشرافها بفناء المسجد الحرام، وفيهم من كان قد شتم الرسول، وأذاقه ضروب الأذى، وفيهم من كان قد ائتمر عليه بالقتل، وفيهم من كذب برسالته وافترى عليه، وفيهم من قاتله، وتذرّع بكل وسيلة لمحو الإسلام، وفيهم من طعن النبي بالرمح، وضربه بالسّيف، وفيهم من آذوا فقراء المسلمين، وضعفاءهم، وكووا صدورهم وظهورهم بالجمر الملتهب، كل أولئك من رجال قريش وساداتها كانوا يوم فتح مكة واقفين منكسي رؤوسهم صاغرين، ولعلهم كانوا يتذكرون ما سلف منهم، وتحز ذكراه في ضمائرهم مترقّبين أن يوقع بهم الرسول جزاء ما اقترفوا، وحقّ لهم أن يخافوا، فإن الذي أجلوه عن وطنه، وأخرجوه من داره قد عاد إليهم فاتحا عزيزا، يقود تحت راياته عشرة آلاف من الأبطال الباسلين؛ الذين ينتظرون أوامر سيدهم لينفذوها.

في ذلك الموقف الرّهيب سألهم الرّسول: ماذا ترون أنّي فاعل بكم؟

قالوا: خيرا. أخ كريم، وابن أخ كريم. فقال صلّى الله عليه وسلم: أقول اليوم ما قال يوسف لإخوته لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف: ٩٢] اذهبوا فأنتم الطّلقاء «١» .

هذه هي محبّة الأعداء، والعفو عنهم. وهذا ما حقّقه محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وضرب به المثل للسماحة التي لا عهد للدّنيا بمثلها، فذلك هو العفو والصفح، وتلك هي دماثة الخلق، وسعة الصدر، وكرم


(١) زاد المعاد، ج ١، ص ٤٢٤.

<<  <   >  >>